القرار الذي اتخذته إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما ،قبل اشهر، بتكثيف الحضور العسكري البحري في بحر جنوب الصين، لتطويق صعود الوجود الصيني في تلك المياه ، فتح من جديد ملف هذه القوة ومدى إمكانية الاعتماد عليها لمحاصرة وردع القوى المنافسة للولايات المتحدة. المدخل أن الأسطول الأميركي جرى تقليص حجمه، إلى حدّ يزعم المحافظون أنه بات يهدّد مكانة أميركا وهيمنتها البحرية. وهو فعلاً كذلك بلغة الأرقام. وقد اغتنم المرشح الجمهوري ميت رومني الفرصة ليدعو إلى ردّ الاعتبار للقوة البحرية الأكبر في العالم وبناء مزيد من البوارج والسفن الحربية، على غرار ما شهدته رئاسة ريغان.
إدارة أوباما وبدعم من "بنتاغون"، تقول إن الحرب العصرية تختلف عن الماضي حين كان للأساطيل التقليدية دورها الحاسم، كما كانت الحال خلال الحرب العالمية الثانية. اليوم يختلف سلاح البحرية عن ذي قبل. وبالتالي، صار المقياس في النوعية والمهمات التي تفرضها حروب العصر. ومن هنا تشديدها على مفهوم جديد خلاصته أن هذا السلاح لم تعد أهميته تكمن في دوره التقليدي المعروف بالمواجهة الميدانية، بل بالقيام بمهمتين متلازمتين: إبراز القوة الأميركية في الخارج والقيام بعمليات عسكرية عند اللزوم، مع الأفضلية للأولى بكونها وسيلة ردع للمواجهات، الأمر الذي يقتضي إعطاء الأولوية للجيل الجديد من البوارج الحربية بالإضافة لحاملات الطائرات وليس لعددها.
مقاربة مختلفة
بعد تجربة ودروس حربين، خاصة في العراق، اضطرت واشنطن للبحث عن مقاربة مختلفة لمواجهة التحديات غير المسبوقة. الورطة المكلفة أضعفت الشهية للتدخل الخارجي لدى الرأي العام الأميركي والكونغرس كما في أوساط الدوائر المعنية بشؤون الأمن القومي. وحده اليمين الموتور بقيت قابليته مفتوحة على القوة الخالصة. إدارة أوباما رفعت شعار طي صفحة حروب بوش والإحجام عن فتح جبهات جديدة. المناخ مواتٍ لمثل هذا التوجه. عزّزه الخفض الإجباري في موازنة البنتاغون. في هذا الاتجاه بدأت عملية رسم استراتيجية بديلة كان استخدام طائرة " درون " الموجّهة أولى بواكيرها والتي جاءت بمردودات شجعت واشنطن على التمادي في استعمالها. مع أن هذا التمادي بدأ يثير مخاوف جهات كررّت التحذير من الإفراط في التعويل عليها. رافق ذلك التركيز على السلاح الصاروخي المضاد للصواريخ، المعروف بالدرع الواقي المزمع نصبه في أوروبا، أو الدرع الواقي في إسرائيل. والآن يأتي هيكلة القوة البحرية بما يتسق مع هذا التوجه.
التركيز على الحاملات
البحرية الأميركية القديمة رافقت ولادة الاتحاد. وقد جرى تطويرها بعد الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر وتدمير ما فيه من قطع بحرية خلال الحرب العالمية الثانية. منذ ذلك الحين بدأ التركيز على حاملات الطائرات كبديل عن قوافل البوارج في البحار. وبلغ الأسطول ذروة حجمه في تلك الحرب: 6768 سفينة حرب وتموين ونقل وامدادات وبرمائية. اليوم لدى أميركا 11 حاملة وواحدة قيد البناء مع اثنتين على الورق وواحدة احتياط. على ظهرها 3700 طائرة مقاتلة وإلى جانبها 288 بارجة حربية فقط. عدد يزعم الجمهوريون بانه لا يكفي للاحتفاظ بالموقع المتفوق أو لوقف التمدد البحري الصيني. في ميزان هؤلاء: " الصين تزداد قوتها البحرية وأميركا تتقلّص". وبحسب الرصد الأميركي، فإن لدى بكين 78 سفينة حربية تقليدية، مقابل 114 بحوزة أميركا. ولديها ثلاث غواصات حاملة لصواريخ عابرة للقارات بالإضافة إلى اثنتين على الطريق، في حين تملك واشنطن 14. الأولى لديها 100 حوض جاف لصناعة السفن الحربية، مقابل 6 في أميركا. ويتعمد المحذرون تضخيم تنامي القوة البحرية الصينية إلى حدّ الزعم أنه إذا بقي الخلل هذا على حاله فإن الصين " قد تسبقنا كما سبق لنا أن سبقنا اليابان بعد الحرب الثانية ". الأخطر، وفق ما يقولونه أن البحرية الأميركية " باتت أقل فعالية من ذي قبل في مجال حرب الغواصات وكسح الألغام البحرية ".
توجه غالب
في ضوء هذه الأرقام، تشدّد هذه الجهات على وجوب تجديد القوة البحرية، عدداً وعدّة. لكن التوجه الغالب ليس فقط لدى إدارة أوباما بل أيضاً لدى "بنتاغون"، حيث يميل باتجاه التركيز على المهمة الجديدة لهذه القوة، والتي تدور أساساً حول استعراض القوة ولعب دور المنصة للعمليات العسكرية البعيدة. فالقدرات المالية المتوفرة حتى وقت لاحق، و سلع الحروب خاصة المفتعلة، لم يعد لها سوق رائج على الساحة الأميركية.
