تسير الأمور خطوة خطوة باتجاه تحويل مياه جنوب شرق آسيا إلى بحيرة مسلّحة. الصراع حول النفوذ والتخوم البحرية والخامات المعدنية الواعدة في هذه المنطقة ترتفع حرارته ،وتهدّد بتزايد الاحتكاكات المحفوفة بخطر التحوّل إلى أزمة دولية جديدة. ليس بالضرورة بين الكبيرين في المعادلة، أميركا والصين. بل بين هذه الأخيرة وبعض جيرانها المتنازعين معها حول الحقوق البحرية والمنضوين أخيرا أو مرشحين للانضواء، في تحالف جديد مع الولايات المتحدة؛ تشير كل الدلائل أنه مصمم لتطويق التمدد الصيني في هذا المدى المائي الجيواستراتيجي الهام.
استراتيجية جديدة
وقد جاءت الجولة الآسيوية التي قام بها وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا لتشكل علامة فارقة في هذا السياق. خطابها ومحطاتها والمعلومات التي كشف عنها، جعلتها بمثابة مدماك آخر في بناء الاستراتيجية الجديدة القاضية بنقل الثقل العسكري الأميركي البحري إلى تلك المنطقة. ليس ذلك فحسب، بل إرسائه على قاعدة تحالف إقليمي متماسك، تجمع بين أطرافه مشاعر الجفاء أو القلق إزاء الصين، ومحاولاتها بسط نفوذها في بحر الصين الجنوبي وحتى خارجه، كقوة عظمى في الإقليم.
وقد استوقف المراقبين أن زيارة الوزير الفيتنامية أحيطت بكثير من الأضواء، وأنه أطلق خلالها معظم تلميحاته حول عزم واشنطن على إيلاء هذه المنطقة معظم الاهتمام من الآن وصاعداً، عبر تعزيز التواجد البحري الأميركي فيها. فكلامه كما اختياره للمواقع التي زارها، كان مشحوناً برسائل التلويح والتحذير الضمنيين باتجاه بكين.
كما هي الحال برسائل التطمين باتجاه الحلفاء المرتقبين لشدّهم إلى التكتل الجاري تكوينه. وكان أهمها تعمّده زيارة خليج " كام ران " الفيتنامي الذي كان قاعدة بحرية للقوات الأميركية أثناء حرب فيتنام. ولم يخف الرغبة الأميركية في تجديد الحضور العسكري البحري هناك على سبيل الاستفادة من التسهيلات التي قد يوفرها هذا الموقع للقطع البحرية الأميركية المتجولة في المياه القريبة.
. " إنه من الأهمية بمكان أن نعمل مع شركائنا مثل فيتنام لاستخدام هذا المرفأ عندما تنتقل بوارجنا إلى محطاتها في هذه المنطقة من المحيط الهادئ "، كما قال بانيتا وهو يقوم بزيارة المرفأ.
وكان سبق للرئيس أوباما أن دشّن هذا التوجه، في زيارته قبل أشهر لأستراليا وغيرها من الدول السبعة للتحالف الجديد الذي تنسجه واشنطن في جنوب شرق آسيا. يومذاك جرى التوقيع على اتفاقية لزيادة عدد القوة الأميركية المرابطة بصورة دورية في أستراليا. واليوم، يعلن وزير دفاعه، خلال الجولة، عن قرار بنشر 60% من البوارج الحربية الأميركية مجموع ما لديها: 283 سفينة و11 حاملة طائرات و50 غواصة في مياه المنطقة بحلول العقد القادم.
حرية الملاحة
تزعم واشنطن أنها قررت الدخول إلى بحر جنوب الصين بهذا الوزن العسكري من أجل تأمين حرية الملاحة. لكن الخلفية تشي بأكثر من ذلك. المناكفة الجارية فصولها بين واشنطن وبكين منذ فترة من الوقت،.
والتي أخذت شحنات من التأزم مؤخراً، تضع الحضور الأميركي البحري هذا يندرج في خانة التصعيد لإحداث تحوّل في ميزان القوة في بحر الصين الجنوبي، مقابل التحول الحاصل في مركز الثقل الاقتصادي العالمي باتجاه شرق آسيا وتحديداً الصين. الأول غرضه التضييق على الثاني ومحاصرته لمنعه من تسييل موقعه الاقتصادي الممتاز بمكاسب استراتيجية.
محاولة لا تخلو من المجازفة، ولو أن المصالح الهائلة التي تربط واشنطن وبكين أقوى من أن تسمح بالانزلاق إلى مشاحنة حتى لا نقول مواجهة ميدانية. لكن للتراكمات فعلها. سيما وأنها مزمنة وازداد منسوبها في عهد أوباما، الذي كان قد أعرب عن عزمه على تنقية أجواء العلاقات مع الصين واعتماد التعاون معها كشريك.
بدلاً من ذلك، قرّرت إدارته في وقت مبكر وبالتجاوب مع ضغوط الكونغرس، الموافقة على صفقة سلاح لتايوان. قرار رفع منسوب التأزم مع بكين، التي رأت فيه خطوة عدائية.
وكان ردّها سلسلة من المواقف السلبية الدبلوماسية وغيرها. رفضت إدانة ممارسات كوريا الشمالية في مجلس الأمن. ثم لجأت إلى سياسة عرض العضلات والتحدّي في بحر جنوب الصين، من خلال زعم السيادة على جزر ومساحات مائية واسعة متنازع حولها مع عدد من الجيران وتردّد أن تحت قاعها يرقد مخزون نفطي ضخم.
كما من خلال كشفها لأول مرة وعشية زيارة الرئيس جينتاو لواشنطن في يناير 2011 عن آخر منتجاتها الحربية الحديثة والتي شملت حاملة طائرات ومقاتلة متطورة وغير ذلك من الأسلحة الجوية والبحرية المتقدمة. رسائل عادت واشنطن لترد عليها في حبك التحالف الجديد المزمع دعمه بقوة بحرية ضاربة. لعبة عرض متبادل للقوة قد تتحول إلى لعب بالنار.
