سجّل بارومتر العلاقات الأميركية - الباكستانية قفزة جديدة من التصعيد الذي يضعها على مشارف الانفجار. لأول مرة يتراشق الجانبان بخطوات علنية، تشي بأن الكيل قد طفح لديهما. البرلمان الباكستاني يضع قائمة بالبنود المطلوب من واشنطن تلبيتها، كمقدمة لتصحيح العلاقات معها، على رأسها وقف استخدام الطائرة الموجهة عن بعد فوق الأراضي الباكستانية، لمطاردة وقصف عناصر طالبان وتنظيم حقاني.

ردّت الإدارة بإعادة هذا الطائرة إلى الجوّ بعد شهر من الانقطاع. وجاءت هذه العودة عقب وصول جولة مباحثات مكثفة بينهما، إلى طريق مسدود تقريبا. ومما زاد الطين بلّة أن هذا التطور تزامن مع نكسة لعملية التفاوض، التي أوقفتها طالبان الأفغانية مع واشنطن. كما أنه حصل بعد أيام قليلة من تجربة أجرتها الهند لصاروخ عابر طويل المدى، حظى بمباركة أميركية ضمنية وأثار كثيرا من الشكوك والحساسيات في إسلام أباد. كل ذلك من شأنه رفع منسوب التوتر في تلك المنطقة المفخخة وشحن أزماتها بالمزيد من عوامل التفجير. وبالذات الأزمة المتفاقمة والفريدة من نوعها بين واشنطن وباكستان وتفرعاتها الأمنية والعسكرية، الأفغانية والهندية.

العلاقة بين هذين الحليفين اللدودين، نادراً ما كانت صافية. فمن الأصل، وفي بداية الخمسينات وهي مأزومة، وبأحسن الأحوال، تشوبها الشكوك المتبادلة. وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر بدأت تخرب. ثم أخذت انعطافة إلى الأسوأ، مع اغتيال بن لادن. ومع دخول طائرة درون على مسرح عمليات الملاحقة داخل الحدود وارتفاع عدد الضحايا المدنيين الباكستانيين، صارت تمشي على العكّاز.

وقد منعها من الانهيار أن إسلام أباد بقيت طامعة بالمساعدة الأميركية المالية البالغة حوالي 2 مليار دولار سنوياً، وأن واشنطن طمعت دائماً بالمساعدة الباكستانية الأمنية في أفغانستان. معادلة يشدها خيط الحاجة المتبادلة. لا هي تعافت ولا تهاوت. إلى أن تسبب القصف الأميركي بمقتل 24 جندياً باكستانياً على الحدود مع أفغانستان. بلغ الاحتقان مداه في إسلام أباد.

لاسيما وأن واشنطن رفضت طلب هذه الأخيرة بتقديم اعتذار. اكتفت بالتعبير عن الأسف فقط. أصرّ الجانب الباكستاني على طلبه. ثم تولّى البرلمان الأمر وصوّت بالإجماع على قائمة شروط لتصحيح العلاقات مع واشنطن، منها الاعتذار ووقف طلعات طائرات درون وتسديد واشنطن مستحقات مالية متأخرة تزيد على مليار دولار، لصندوق الدعم الذي يقدمه التحالف لباكستان كمساعدة لها في حربها مع المسلحين.

 

مواصلة الحوار

أوفدت واشنطن فريقاً من عشر مفاوضين مدنيين إلى إسلام أباد. لكن المباحثات لم تصل سوى إلى التوافق على مواصلة الحوار . القضايا العالقة راوحت مكانها. الإدارة الأميركية تصرّ على متابعة عمليات القصف داخل باكستان وعدم الاعتذار. وإسلام أباد تردّ بإصرار مماثل على شروطها وعلى وجوب احترام كرامتها الوطنية. تصادم تعذر التوفيق بين طرفيه، حتى الآن.

مأزق رفع من وتيرة الجدل في واشنطن بين من يشدّد على أهمية احتواء الخلاف وبين من يؤكد على وجوب تدفيع باكستان ثمنه، سواء من خلال ورقة المساعدات أو العمل على تسريع تمتين العلاقة مع الهند، خصمها الأكبر. معظم رموز هذه المدرسة من الكونغرس. لكن كفة التحذيرات راجحة في أروقة مراكز الدراسات وأوساط المحللين، من بلوغ نقطة اللاعودة، مع حليف لا غنى لواشنطن عنه، على الأقل طالما حرب أفغانستان مشتعلة. والمعروف أن الحكومة الباكستانية سبق وأقفلت قبل خمسة أشهر، طريق إمدادات التموين للقوات الأميركية، التي تمر في أراضيها. لأول مرة تغلقها مثل هذه المدة.

ولا تبدو أنها في وارد التراجع، قبل تسوية الملف بكامله. وهذا الأخير غارق في تعقيداته المتراكمة، منذ سنوات. وقد تضخمت الأزمة بصورة أكبر في الآونة الأخيرة، وزاد تطور علاقة واشنطن مع نيودلهي من أزمة الثقة وتآكلت بقايا المصداقية الهشة بين الجانبين.

 

لعبة التحدي

على هذه الخلفية تدور لعبة التحدّي الآن بين الطرفين. وثمة خشية من أن تؤدي دورة الفعل ورد الفعل إلى عمل نوعي ينقل الأزمة إلى مستوى أخطر. خاصة أن القوات الباكستانية لوحت سابقا باحتمال التصدي الجوي لطائرة درون الأميركية وإسقاطها فوق الأراضي الباكستانية، بحجة خرقها لحرمة الأجواء الوطنية والتعدّي على السيادة. فهذه الطائرة تقول واشنطن، باتت تشكل أحد ركائز إستراتيجيتها الأمنية، خاصة في حربها مع الإرهاب. لكنها في نظر باكستان، باتت رمز ما تعتبره بمثابة إهانة وطنية. علماً بأنها سمحت بطلعاتها من البداية ولم ترفع صوتها إلاّ بعد تزايد عدد ضحايا هذا القصف الجوي في صفوف المدنيين. قوة وإهانة لا يتعايشان.