ربما كان التوقيت صدفة، لكن تجربة الهند الناجحة لصاروخ طويل المدى، تصبّ في مجرى التوازنات والمعادلات الجاري تكوينها في تلك الساحة الآسيوية الصاعدة. وفي هذا السياق فإنها تحمل أكثر من رسالة. كما تؤشر إلى تبلور عملية الاصطفاف في المنطقة، في إطار صراع النفوذ المحتدم فوقها ولو الصامت حتى الآن والذي تمثل الصين محوره الرئيسي. لاسيما وأن الولايات المتحدة الأميركية دخلت بقوة مؤخراً على هذا الخط ، سواء من خلال تعزيز التحالف الجديد الذي نسجته مع دول عدة في المحيط الهادي، أو من خلال تطوير العلاقة الإستراتيجية الخاصة مع الهند، أكبر دول المنطقة بعد الصين وثانيها في معدلات النمو الاقتصادي.

 

بطاقة الانتساب

أعطى هذا الصاروخ، " أغني 5 " أي النار 5، الذي يزيد مداه على خمسة آلاف كلم والمجهز لحمل رأس نووي، الهند بطاقة الانتساب إلى نادي بلدان الصواريخ العابرة: أميركا، روسيا،الصين، فرنسا، بريطانيا وإسرائيل. حدث هام بوزنه وأبعاده الاستراتيجية الإقليمية.

 ويزيد من أهمية هذا التحوّل الهندي أنه جاء في لحظة تشهد نوعاً من العسكرة الآسيوية والعودة لسياسة المحاور والاستقطاب. لكن أكثر ما يلفت فيها أنها جاءت في امتداد علاقات متطورة بين نيودلهي وواشنطن، التي قلّلت من شأن الحدث الصاروخي مع الإشادة بالانضباط النووي الهندي. مع أن العملية كان ينبغي أن تكون محرجة لها من حيث المبدأ والتوقيت، إذ أنها جاءت بعد أيام من المحاولة الكورية الشمالية الفاشلة لإطلاق صاروخ بعيد المدى وما أثارته من اعتراض أميركي عليها. لكن واشنطن بلعت التجربة الهندية لأنها تخدم التوازن مع الصين.،

في عام 2005 وافقت واشنطن، بعد رفض استمر منذ الثمانينات، على عقد " اتفاقية التعاون النووي " مع الهند، للأغراض المدنية، كما جرى تسويغ ذلك حينذاك. ثم جاءت إدارة أوباما وعملت على تطوير العلاقات. تجلّى ذلك بالزيارة غير المسبوقة بمدتها، ثلاثة أيام، التي قام بها أوباما في نوفمبر 2010 إلى الهند والتي تمخّضت عن ولادة " الحوار الاستراتيجي بين واشنطن ونيودلهي " في دورته الثانية عام 2011، نتج عن هذا الحوار عدة اتفاقيات شملت الطاقة وتكنولوجيا الفضاء وغيرهما. وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون كشفت في حينه البعد الاستراتيجي لهذه الشراكة عندما دعت الهند إلى " النهوض بدور قيادي من خلال نفوذها السياسي الذي يتناسب مع تنامي قوتها الاقتصادية ".

محاولة لحثّ نيودلهي على رفع درجة حضورها في المنطقة ودفعها لموازاة أو على الأقل لفرملة النفوذ الصيني في المنطقة. لكن الأخيرة لم تلعب مثل هذا الدور حتى الآن. تحتل باكستان الأولوية لديها . العلاقات المتوترة تاريخياً مع هذه الأخيرة.

فضلاً عن تعقيدات الوضع الأفغاني والدور الباكستاني فيه، بكل ما ينطوي عليه من مخاطر إقليمية، كل ذلك جعل العين الهندية مصوّبة في الأساس نحو إسلام أباد. ساعدها في ذلك، أن العلاقات الأميركية الباكستانية، صارت متردية إلى حدود باتت تبدو معها عصية على الترميم. هي قائمة بالترقيع، بحكم حاجة الطرفين المتبادلة إلى وجودها ولو بصورة هزيلة. والمعروف أن الرئيس أوباما عندما زار الهند وعد بزيارة مماثلة إلى باكستان، لم تحصل حتى الآن.

قرأت بكين رسالة الصاروخ الهندي لكنها حرصت على عدم إعطاء الموضوع حجم الحدث الفارق، وتجاهلت في الظاهر أهميته الاستراتيجية. وفي تعليقها تعمدت التنويه بالعلاقات الجيدة مع الهند، " الشريكة الصين وليست المنافسة لها " حسب المتحدث الرسمي الصيني.

لكنه لفت وبما يقرب من الغمز، إلى وجوب " أن يعمل البلدين بجهد لتعزيز تعاون استراتيجي ودّي بينهما ". إشارة إلى نيودلهي كي لا تندفع في العلاقة مع واشنطن على حساب علاقتها مع الجار الصيني.

كيفما تطورت العلاقات الهندية الأميركية وبصرف النظر عن الرسالة التي أرادتها الهند من صاروخها، سواء كانت موجهة للصين أو لرفع منزلتها الإقليمية والدولية أو للاثنين معاً، فإن من شأن هذا التطور أن يعطي شحنة من التصعيد التسليحي المتزايد في الساحة الآسيوية.

فالصين زادت موازنتها العسكرية. باتت تزيد على مئة مليار دولار. وباكستان المتوجسة دائماً من الهند، لا بدّ وان تعمل على تعميق علاقاتها العسكرية مع الصين، لمواجهة هذه القفزة الهندية بتطوير صاروخ مماثل.

كما أن بقية بلدان الحوض المجاورة للصين، زادت في الآونة الأخيرة من مشترياتها الدفاعية، وسط انتقال التركيز الأميركي البحري بخاصة إلى تلك المنطق التي صارت نقطة التجاذب الدولي الجديد.