مالكولم إكس.. حياة متجددة باستمرار

مالكولم إكس تجسيد للانتقال من الضياع إلى الإسلام

ت + ت - الحجم الطبيعي

هذا هو هو ثاني أهم كتاب يتناول سيرة الزعيم الأميركي الأسود «مالكولم إكس»، كان الكتاب الأول قد صدر منذ عقد الستينات بقلم «إليكس هيلي»، الأديب الكبير من أصل إفريقي الذي ارتبط اسمه بالمسلسل التلفزيوني الشهير بعنوان «جذور» الذي يحكي مأساة العبودية التي تعرّض لها الأفارقة السود المنقولون قسرا من قارتهم الأم إلى حياة العبودية بالولايات المتحدة. وفيما جاء الكتاب الأول بقلم أديب فنان، فإن كتابنا جاء عند الطرف الآخر من معادلة السيرة الشخصية؛ لأنه جاء ثمرة سنوات طويلة من البحث العلمي والتحقيق التاريخي والجهد الأكاديمي، وقد عكف على إنجازه أستاذ ومؤرخ كبير من أصل إفريقي أيضا، ومن ثم فقد اعتمد المراجع الأصلية التي كان من بينها أرشيف مكتب المباحث الفيدرالي (إف. بي. آي) إلى جانب واقع مذكرات شخصية ومصادر منشورة على المواقع الإلكترونية فضلا عن مقابلات عديدة ومفصلة مع أفراد ممن كانوا ضمن الدائرة المقربة من الزعيم الأميركي الأسود.

ومن هنا فقد عمد المؤلف إلى تصوير شخصية بطل الكتاب بأنها تتألف من طبقات يعلو بعضها فوق بعض أو أنها - على حد تعبيره - اتخذت في مسارها عديدا من الأقنعة التي كان لابد من الكشف عنها واحدا تلو الآخر، لاسيما وأن صاحب الشخصية المحورية في الكتاب خاض حياة بالغة التعقيد ومتشابكة العناصر وإن كانت في التحليل الأخير قد تجسدت في حركة دائبة الطموح إلى تحقيق الذات والتماس سكينة الروح في عقيدة الإسلام.

 

 

حرف (إكس) في الأبجدية والثقافة الإنجليزية يرمز إلى المجهول. وهذا هو بالضبط ما قصد إليه صاحب السيرة التي يدور عليها محور الكتاب الذي نقدم له عرضاً وتحليلاً في هذه السطور. وهذا على وجه اليقين ما وفق فيه المؤلف حين اختار بدقة لمّاحة عنوان كتابنا الذي تجسده العبارة التي نترجمها حرفياً على النحو التالي: مالكولم إكس: حياة معاد اختراعها.

نحن إذن أمام شخصية متعددة الأبعاد، بقدر ما كان صاحبها متعدد الأسماء، بقدر ما كان كذلك متعدد الأشغال والاهتمامات بل والهويات.

لكن التحول من واحد من تلك الأبعاد إلى البُعد الآخر، لم يكن مجرد تغيير في المسار بقدر ما كان تحويلا في بوصلة الاتجاه ومن ثم تحولا في نوعية ما كان يتوخى تحقيقه صاحب هذه الشخصية البالغة الثراء من أهداف وما يقصد إليه من غايات.

والحق ان كان «مالكولم إكس» أستاذا في فن هذا النمط من «إعادة الاختراع» على نحو ما يوضح الناقد الأميركي الكبير «متشكوكاكوتاني» (نيويورك تايمز - ملحق الأدب والفن، ‬8/‬4/‬2011).

 

جوقة من الأسماء

وما ظنك بجوقة من الأسماء والكُنى والألقاب

تتراوح إحصائيا على النحو التالي مالكولم ليتل - هومبوي - جاك كارلتون - ديترويت رد - بج رد - ساتان (الشيطان) - مالاشي شاباز - مالك شبّاز ثم الحاج مالك الشبّاز وأخيرا مالكولم إكس.

عشرة أسماء حملها فرد واحد، هو بطل كتابنا على امتداد فترة عمر جاءت بالغة التكثيف، حافلة بالأحداث الجسام، شديدة التوتر من حيث مطالبة السود في أميركا بحقوقهم كمواطنين بل وكبشر أساسا، فضلا عن أن تكون حياة ذات أمد قصير بدأت في شوارع التعاسة والتفرقة العنصرية والانفلات الجنائي في مجتمعات السود المنحدرين من أصول أفريقية - وبالأدق أحفاد الأفارقة الذين ساقوهم من القارة السمراء بعد أن حملتهم عبر غياهب المحيط سفن الشقاء: عبيداً وبشراً مسترقّين إلى حيث استخدمهم مالكو الرقيق اقنانا لزراعة الأرض وأدوات لا حول لها ولا قوة في خدمة السادة من مستوطني أميركا وخاصة في ولايات الجنوب.

هكذا بدأ صاحبنا باسمه الأول الذي يحوي لفظة «ليتل»، وكأنه نشأ مكتوبا عليه أن يظل صغيرا في تحصيل اللقمة وصغيرا في عيون السادة البيض بل صغيرا في حجم الحلم والأمل والطموح.

 

حياة صاعقة

لكن هذا الصغير - الليتل - ما لبث، عبر رحلة حياة صاعقة مكثفة وحافلة بعواصف الأحداث، أن أصبح اسمه قبل الأخير يسبقه لقب «الحاج» إلى أن أوجز رحيق هذا كله في اسم «مالكولم»

الذي يعكس إيقاعا مستمدا من اسم «مالك» في لغة العرب، دعك من إضافة الرمز «إكس» الذي أضفى على الشخصية وصاحبها لمسة مفعمة تحفها الغوامض والأسرار.

بدأ مالكولم إكس شابا ضائعا في حواري ديترويت وأزقة شيكاغو ودروب هارلم حي السود العتيد من أعمال نيويورك، وما كان لمثل هذا الإنسان أن يدخل التاريخ وأن تصدر عنه دراسات وتراجم آخرها هذا الكتاب العلمي التوثيقي الحافل الذي يعد أكبر سفر أكاديمي عن مالكولم إكس (نحو ‬600 صفحة) - لو لم يكن صاحب السيرة قد توّج حياته وأعماله وضمّخ سيرته بعطر مازال أريجه فواحا في التاريخ الأميركي الحديث، هذا العبير الطيب تلخصه عبارة موجزة تقول: لقد شرح الله صدره للإسلام.

‬39 عاما هي قوام هذه الحياة الحافلة لتلك الشخصية البالغة التأثير والشديدة الجاذبية لدرجة آسرة - الشخصية الكارزمية النادرة على نحو ما تصفها مجلة «إيكونومست» الإنجليزية في تقريظها لهذا الكتاب (عدد ‬9/‬4/‬2011).

التطور سمة الشخصية

ولعل أهم ما يميز هذه الشخصية هو خاصية «التطور» وشيمة التجدد. وهو تطور وتجدد إلى آفاق أرحب وآماد أوسع ومراقي أشد طموحا وأعلى رقيا، كيف لا وقد كان هذا التطور المحمود تجسده في التحليل الأخير رحلة روحية ومجاهدة نفسية وسلوكية نقلت، أو بالأدق ارتقت، بصاحب السيرة من شعاب التيه وبوادي الحيرة إلى مشارف الهداية ونور الإسلام.

وكما ألمحنا، فقد تناولت ســــيرة «مالكولم إكس» أقلام وكتابات كـــــــثيرة. لكن أهم ما يميز الكتاب الذي بين أيدينا هو أنه دراسة أكاديمــــــية بالغة الرصانة عكف على إعدادها وتمـــــحيص بياناتها ومطالعة أســــــانيدها باحث أكاديمي كبير أمضى سنوات من جهود البحث العلمي بوصفه مديرا لمعهد جامعة كولومبيا الأميركية العريقة للبحوث والدراسات المعنية بالتاريخ الإفريقي - الأميركي، بمعنى البحوث المتعلقة بسكان الولايات المتحدة الذين أصبحوا يعرفون بصفة الأفرو - الأميركيين، وهي دراسات تبدأ بجذور عصور العبودية منذ القرن الثامن عشر وتصل إلى زماننا الــــراهن الذي شهد ارتقاءً سياسياً من أصول إفريقية إلى سدة المنصب الرئاسي الأول في البيت الأبيض، مرورا بمراحل النضال من أجل حقوق السود التي ربما بلغت ذروتها مع دعوة الزعيم مارتن لوثر كينغ (‬1929-‬1968) في عقد الستينات من القرن العشرين.

على أن سمة التطور التي رصدناها من خلال مطالعة هذا البحث العلمي الجليل هي التي دفعت بالفتى الأسود إلى أن يتحول من شاب مفلوت العيار كان يؤجر ساعده وفتوته وصحته لصالح من يدفع ولو دولارات معدودة تقيم الأود وتسد الرمق، إلى حيث تشبع، كما يوضح مؤلفنا، قرب سن الثلاثين بأفكار القومية السوداء والرابطة الإفريقية الجامعة، وهي أفكار سبق إلى نشرها دفاعا عن السود زعماء من أميركا ربما كان أشهرهم «ماركوس جارفي»، هذا فضلا عما كان يتسامع به هؤلاء الشباب السود الطامحون من دعوات الزنوج النبيلة (ليوبولد سنغور زعيم السنغال) أو جامعة الشعوب الإفريقية (قوامي نكروما زعيم غانا) وفي سنوات الخمسينات والستينات من القرن العشرين.

 

مع أمة الإسلام

رحلة تيه وترحال ومحاولة بحث عن السبيل الأقوم، حيث كان الفتى ينشد سكينة الروح وإقرار العدل وكرامة البشر - الإنسان.

وكان طبيعيا أن يحط مالكولم رحاله عند جماعة بدأت في الظهور مع سنوات الخمسينات على يد زعيمها الأول «إليجا محمد» وحملت من يومها اسمها الشهير: أمة الإسلام.

كانت جماعة تبحث بدورها عن طريق. ومن عجب أن بدأت تشكل عضويتها الأولى من نزلاء السجون من الأفارقة الأميركيين، كانوا يتجاورون في زنازينهم مع بعض السود الذين سبقوا إلى اعتناق الإسلام: لاحظوا كم كان هؤلاء المسلمون الرواد يحافظون على الصلوات في مواقيتها، ويرددون آيات من كتاب ينزل على قلوبهم سكينة الإيمان، ويتميزون بالنظافة والطــــــهارة وعفة اللسان من أثر الوضوء واستقامة السلوك، والطريف أن اليجا محمد نفسه كان يعمل موظفا، سجّانا، في واحد من تلك السجون.

على أن طريق مالكولم إكس لم يكن بسيطا ولا سالكا، لقد شهد خلال حياته القصيرة كيف أحرق المتعصبون بيته المتواضع، وشهد كيف كانت عصابات «كوكلوس كلان» من مجانين الغلاة البيض لا يتورع أفرادها عن قتل السود أو سحلهم أو إحراق بيوتهم أو طردهم من حيث كانوا يسكنون.

كان البيض يرفعون شعارات تفيد بأن الفضل هو باستمرار الجنس الأبيض، وأن صاحب البشرة الداكنة لابد وأن يقبع في مكانة أدنى في المجتمع، وعليه من ثم أن يكتفي بآخر مقعد متهالك من مقاعد الباصات ناهيك أن يطمح أو تسوّل له نفسه أن يتطلع إلى مكانة متميزة أو منصب مرموق.

 

الحاسدون كثيرون

يحرص كتابنا أيضا، ومن منطلقه الأكاديمي الموضوعي، على أن يوضح أن حياة مالكولم إكس حتى في إطار عضويته، ومن ثم زعامته في جماعة «أمة الإسلام» لم تكن مرحلة أمان

وطمأنينة ورخاء على طول الخط، بالعكس كان هناك منافسون يحقدون على ارتفاع شأوه السريع ناسين موهبته كخطيب وقائد وزعيم. وكان هناك من أعضاء الجماعة من لم يحسن إسلامهم، بل ظلوا نهبا لأفكار وتخليطات ورؤى مختلة كانت بالطبع بعيدة عن صفاء الإسلام وسماحة الإسلام.

لكن الأهم ما يركز عليه مؤلف كتابنا في إطار ما توخاه بكل صبر العالم وأناة الباحث وتدقيق المؤرخ - متمثلا في تحوّل صاحب السيرة من «بلطجي» الشارع إلى نزيل في السجون ثم إلى متعصب لكل ما هو أسود وكل ما هو إفريقي، وأخيرا إلى مثقف مسلم ومفكر مستنير استطاع من ثم أن يحوز شهرة دولية وخاصة عندما أعلن بعد إسلامه شعاره العتيد: من أجل الحياة والحرية وتحقيق السعادة للناس أجمعين.

يعرض كتابنا أيضا لوقائع اللقاء المشهود الذي جمع بين بطلنا «مالكولم إكس» وبين الأديب «أليكس هيلي»، الذي انتشر صيته في آفاق الفن بعد إذاعة مسلسله المتلفز بعنوانه الشهير: «جذور».

ويسرد فيه حكاية السود من أصولهم وجذورهم في ربوع إفريقيا إلى منافيهم وعذاباتهم وأكواخهم في أصقاع أميركا.

كان ذلك في عام ‬1959. وسرعان ما أعجب الأديب بالفتى الأسود الذي كان يشق طريقه إلى الصفوف القيادية في جماعة «أمة الإسلام». بعدها، وبفضل الأديب الأفرو - أمريكي الكبير، تسامع الناس في عقد الستينات باسم مالكولم. لماذا؟ لأن هيلي كتب عنه مقالات عدة مهمة

نشرتها مجلات عديدة كان من بينها مثلاً «ريدرز دايجست» (كانت تصدر في طبعتها العربية باسم «المختار»).

 

عن سيرته الأولى

بعدها أيضا قرر «هيلي» أن يسجل قصة حياة مالكولم إكس. وهكذا بدأت لقاءات الصديقين للتعاون على إصدار الكتاب الذي صدر محررا من قلم هيلي تحت العنوان التالي: السيرة الذاتية لمالكولم إكس.

وقد اكتسب الكتاب المذكور شهرته من شهرة هيلي الأدبية بقدر ما حقق ذيوعه أيضا إثر اغتيال مالكولم إكس نفسه وفيما كان يخطب على خشبة مسرح في جمع جماهيري في نيويورك وكان ذلك في عام ‬1965 وعمره وقتها لا يزيد على ‬39 سنة.

في كل حال لم تكن حياته سهلة ولا كان طريقه ميسورا، بل لم يتورع عن أن يعترف يوما فيقول على نحو ما يسجل كتابنا: لست اعتقد أن هناك من كان يتردد على السجون دخولا وخروجا أكثر مني.

ثم يتألق مؤلف الكتاب حين يتابع رحلة بطله المشهورة إلى خارج أميركا، إلى مكة المكرمة على وجه التحديد، كانت هي رحلة الحج إلى بيت الله الحرام، عاد منها مالكولم وقد تعمقت أواصر الإيمان في قلبه، وكم كان منبهرا كما قال لكل من حوله، بمشهد جموع الحجيج الذين التفوا حول بيت الله الحرام، من كل جنس وكل وطن وعلى اختلاف الألوان والسحن والطبقات والمشارب والأوطان في أخوّة إنسانية بغير شبيه

أو نظير وكم كان قلبه يخفق متبتلا وهو يردد الدعاء المشهود: لبيك اللهم لبيك.

هنالك نحس خلال مطالعتنا هذه الصفحات من الكتاب أن المؤلف، البروفيسور «ماننغ مارابل»، قد نحى بشكل مؤقت أكوام المستندات والأرشيفات التي كان يحيل إلى بنودها ومحتوياتها، وأنه بدلا من ذلك استعرض مشاهد الفيلم الجميل الذي قدمه المخرج الأسود الموهوب سبايك لي في السينما الأميركية وعرضوه في عام ‬1992 عن حياة مالكولم إكس واحتوى مشهد تلاوته فاتحة القرآن الكريم، وفي لقطات تستدر الدمع حقا، وخاصة وقد أداها بخشوع ملموس ممثل موهوب أسود هو «دانزل واشنطون».

من جانبه يوضح الناقد «ويل هيغود» كيف أن سيرة بطلنا مالكولم إكس كانت في كثير من مراحلها تجسيدا للمعاناة بل والمأساة. لقد أشار الناقد المذكور (واشنطن بوست، عدد ‬10/‬4/‬2011) إلى ما عانته أسرة مالكولم يوم اغتياله من صدمة الحزن الصاعق، وبعد اغتياله اتهموا ابنته «قبيلة» بأنها استأجرت من يقتل زميله في الجماعة، لويس فرقان، لشكها في تآمره على اغتيال والدها، ثم ظل الأسى يلاحق هذه الأسرة المنكوبة، على مدى طويل، وفي عام ‬1997 لقيت السيدة «بتي شاباز» أرملة الزعيم مالكولم إكس مصرعها في حريق شب في مسكنها في نيويورك، وكان حفيدها هو السبب في إشعال نيران هذا الحريق فتأمل!

 

الكتاب: مالكوم إكس .. حياة متجددة باستمرار

عدد الصفحات: ‬594 صفحة

تأليف: ماننغ مارابل

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: فايكنغ برس- نيويورك-‬2011

Email