عندما أصدر السناتور الأميركي سام أرفين تقريره النهائي بوصفه رئيس لجنة مجلس الشيوخ للتحقيق في فضيحة ووترغيت، طرح السؤال التالي: «ما هو جوهر فضيحة ووترغيت؟» وعلى امتداد السنوات الأربعين الأخيرة منذ 17 يونيو 1972، قدمت إجابات لا تحصى، بعد إلقاء القبض على فريق من اللصوص يرتدون بدلات رجال أعمال ويضعون قفازات مطاطية في الساعة الثانية والنصف من بعد منتصف الليل في مقر الحزب الديمقراطي بمبنى مكاتب «ووترغيت».
وبعد ذلك بأربعة أيام، قدم البيت الأبيض برئاسة نيكسون اجابته: «قد تحاول بعض العناصر أخذ هذا الأمر إلى أبعد مما هو عليه». والناطق الرسمي الإعلامي رونالد زيغلر سخر من الأمر مهونا من شأن الحادث باعتباره «سطو من الدرجة الثالثة»، ولقد برهن التاريخ على أنه كان أي شيء إلا هذا.
وبعد سنتين، سيصبح الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون الرئيس الأميركي الأول الذي يستقيل من منصبه، ودوره في التآمر الجنائي لعرقلة العدالة، والتغطية والتستر على واقعة ووترغيت، قد تم إثباته بشكل حاسم، لكن إجابة أخرى سادت دون أن يجري الاعتراض عليها منذ ذلك الحين، وهي فكرة أن التغطية على الجرم كانت أسوأ من الجرم. وهذه الفكرة تقلص من حجم أفعال نيكسون الجنائية ونطاقها.
وأجوبة أرفين نفسه على السؤال الذي طرحه تلمح إلى أهمية ووترغيت، حيث يقول: «فيما يخص الانتخابات الرئاسية لعام 1972، كانت تدميرا لسلامة المسار الذي من خلاله يتم ترشيح رئيس الولايات المتحدة الأميركية وانتخابه»، لكن ووترغيت كانت اكثر من ذلك بكثير. في أقصى شدتها، كانت فضيحة ووترغيت عبارة عن هجوم وقح وجريء قاده نيكسون نفسه ضد أسس الديمقراطية الأميركية، أي الدستور ونظام الانتخابات الحرة وحكم القانون.
فماذا كانت ووترغيت؟ كانت في الواقع حروب نيكسون الخمسة التالية:
حرب ضد المحتجين
الحرب الأولى لنيكسون كانت ضد حركة مناهضة حرب فيتنام، التي اعتقد الرئيس الأميركي الأسبق أنها تحد من قدرته على المضي في الحرب بناء على شروطه. في عام 1970، وافق على «خطة هيوستون» شديدة السرية، والتي تسمح لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووحدات الاستخبارات العسكرية بتكثيف المراقبة الإلكترونية على الأشخاص الذين وصفوا بأنهم «تهديد للأمن الداخلي»، واعتراض البريد، ورفع القيود عن عمليات «الدخول خلسة» وبشكل سري إلى مقرات المعارضة للحصول على معلومات.
وكان توماس تشارلز هيوستون، المساعد في البيت الأبيض الذي وضع الخطة قد أشار إلى نيكسون بأنها غير قانونية، لكن الرئيس الأميركي الأسبق وافق عليها.
في 17 يونيو 1971، قبل سنة بالتحديد من اندلاع فضيحة ووترغيت، التقى نيكسون في المكتب البيضاوي مع رئيس أركانه إتش أر «بوب» هالدمان ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر. وكان الموضوع يتعلق بملف حول كيفية تعاطي الرئيس الأميركي الأسبق ليندون جونسون مع قراره وقف قصف فيتنام الشمالية عام 1968. كانوا يريدون القصة الكاملة وراء إجراءات جونسون.
يقول هالدمان: «هيوستون يقسم بالله بأن هناك ملفا حوله في مركز أبحاث بروكينغز».
يجيب نيكسون : «بوب، الآن، أنت تذكر خطة هيوستون، أليس كذلك؟ نفذها وأعني بذلك أنني أريد تطبيقها بطرق لصوصية. لعنة الله عليهم، اذهب إلى هناك واحصل على هذه الملفات. فجر الخزانة واحصل عليها» ولأسباب لم يتم إيضاحها أبدا، فان عملية الاقتحام على ما يبدو لم تنفذ.
حرب على الإعلام
وحرب نيكسون الثانية شنت بلا توقف على الصحافة التي كانت تشير تقاريرها بمزيد من الإصرار إلى الحرب المتعثرة في فيتنام وفعالية حركة مناهضة الحرب. وقد تم إعداد وحدة «للتحقق من وقف تسرب المعلومات الحساسة» وفريق للسطو تحت توجيهات مستشار البيت الأبيض، جون إيرلخمان ومساعده إيجل كروخ، وبقيادة الرؤساء التنفيذيين لعملية السطو في فضيحة ووترغيت المستقبلية، عميل وكالة الاستخبارات المركزية السابق هوارد هنت، وعميل مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق جي غودون ليدي.
وكانت مهمة هنت الأولى تتمثل في تخريب سمعة دانيال الزبرغ، الذي سرب وثيقة «بنتاغون بايبرز»، التاريخ السري لحرب فيتنام، إلى وسائل الإعلام في عام 1971. وعلى الرغم من أن الزبرغ كان أصلا على لائحة الاتهام ومتهما بالتجسس، إلا أن الفريق بقيادة هنت وليدي اقتحم مكتب طبيبه النفسي ساعيا وراء معلومات قد تلطخ سمعته وتقوض مصداقيته.
وردا على تسريبات إلى الصحافة مشكوك بأمرها حول فيتنام، أمر كيسنجر مكتب التحقيقات الفيدرالي في عام 1969 بالتنصت على المكالمات الهاتفية ل 17 صحافيا ومساعدا في البيت الأبيض من دون أخذ موافقة المحكمة. وفي لقائه مع الأدميرال توماس مورير رئيس هيئة الأركان المشتركة حسب شريط تسجيل صوتي، يوضح نيكسون قائلا: «الصحافة عدوتك، هل تفهم ذلك؟».
حرب ضد الديمقراطيين
في حربه الثالثة أخذ نيكسون كل الوسائل تلك من التنصت على المكالمات الهاتفية والسطو وغيرها، ونشرها ضد الديمقراطيين الذين يتحدون إعادة انتخابه.
ولجنة مجلس الشيوخ للتحقيق في فضيحة ووترغيت وجدت لاحقا أكثر من 50 مخربا بمن في ذلك 22 جرى الدفع لهم من قبل محام من كاليفورنيا يدعى دونالد سيغرتي كان قد تلقى 43 الف دولار من هربرت كالمباخ، المحامي الشخصي لنيكسون، من أموال حملة الانتخابات الرئاسية.
وتحقيق مجلس الشيوخ قدم لاحقا تفاصيل عن فاعلية الجهود السرية ضد المرشح الديمقراطي موسكي، الذي كان يعتبر الديمقراطي الأكثر قدرة على دحر نيكسون. وحملة الرئيس الأميركي الأسبق دفعت لسائق موسكي، المر وايت، الف دولار في الشهر لتصوير مستندات، وتخريب آخر تضمن مزاعم حول تصرفات جنسية غير لائقة.
وتظهر الأشرطة أيضا هوس نيكسون بديمقراطي آخر هو السناتور إدوارد كيندي.
قال نيكسون لهالدمان في أبريل 1971: «أود فعلا التنصت على كيندي». وعندما تلقى كيندي حماية من الخدمة السرية فيما كان يترأس حملة المرشح الرئاسي الديمقراطي ماكجفرن، دس نيكسون وهالدمان عميلا متقاعدا في الخدمة السرية هو روبرت نيوبراند، في فريق حماية كيندي، والذي قال: «قد نوفق وندمره عام 1976» . يرد الرئيس الأميركي الأسبق: «هذا الأمر سيكون مسليا».
حرب على العدالة
أطلق اعتقال لصوص ووترغيت الحرب الرابعة لنيكسون ضد نظام العدالة الأميركي. وكانت حربا من الأكاذيب والرشاوى.
في 21 مارس 1973، وفي أحد اللقاءات التي لا تنسى حول ووترغيت والتي تم التقاطها على تسجيل صوتي، التقى نيكسون مع مستشاره جون دين الذي أعطي مهمة تنسيق التغطية على ووترغيت.
يقول دين: «يجري ابتزازنا من قبل هنت واللصوص وأناس كثر سوف يبدأون في الحنث باليمين».
يسأله نيكسون : «كم من المال تريد؟»
يجيب دين: «أقول إن هؤلاء الناس سوف يكلفون مليون دولار على مدى السنتين المقبلتين»
يسأله نيكسون: «وهل يمكنك أن تقوم بها الأمر نقدا، أدرك أين يمكن أن تصل، اعني أن الأمر ليس سهلا، لكن يمكن القيام به.»
وكان هنت يطلب 120 ألف دولار على الفور.
ولقد ناقشا طلب عفو رئاسي له وللصوص.
يدخل بعد ذلك هالدمان إلى الغرفة، ويقود نيكسون عملية البحث في طرق «للاهتمام بالقابعين في السجن». ولقد تباحثوا بخصوص مبالغ ب350 ألف دولار موجودة في البيت الأبيض، وإمكانية استخدام رجال دين للمساعدة في إخفاء المدفوعات إلى اللصوص، و»لغسل الأموال» عبر مكاتب المراهنات في لاس فيغاس ونيويورك، وللاختيار بين القضاة لجنة جديدة حيث بإمكان الجميع اللجوء إلى التعديل الخامس للدستور أو الزعم بضعف الذاكرة.
حرب على التاريخ
الحرب الأخيرة لنيكسون، والتي شنت حتى يومنا هذا من قبل مساعدين سابقين له ومراجعين للتاريخ، تهدف إلى التقليل من أهمية ووترغيت في سجله الرئاسي. عاش نيكسون عشرين سنة بعد استقالته، وعمل جاهدا لتقليص فداحة الفضيحة.
وعلى الرغم من قبوله عفوا كاملا من الرئيس الأميركي جيرالد فورد، إلان أنه اصر على عدم مشاركته في أي من الجرائم. وفي مقابلة تلفزيونية أجريت معه في عام 1977، قال إنه «خذل الشعب الأميركي» لكنه لم يعرقل العدالة. وفي مذكراته عام 1978، تناول دوره في ووترغيت فقال: «أفعالي وسهواتي، على الرغم من أنها لا تغتفر ولا يمكن الدفاع عنها، إلا أنها لم تكن تهماً في المحكمة».
وفي كتابه «في الساحة»، شجب عشرات «الأساطير» حول ووترغيت، وزعم انه كان بريئا من كثير من التهم المنسوبة إليه. ويقول إن إحدى هذه «الأساطير» أمره بدفع رشاوى لهنت وغيره، لكن في شريط مسجل يعود إلى 21 مارس 1973 يظهر انه أمر دين بالحصول على الأموال 12 مرة.
وحتى الآن، لا يزال المدافعون عنه يزعمون أن أسئلة كثيرة لديهم تبقى من دون إجابات. كتب فرانك غانون، المساعد السابق لنيكسون في البيت الأبيض الذي يعمل حاليا لمؤسسة نيكسون في «وول ستريت جورنال»: «ما يبرز من ووترغيت هو إحساس حاد بأننا ما زلنا لا نعرف الكثير حول أحداث 17 يونيو 1972، أسئلة مثل: من أمر بالاقتحامات؟ وهل فشلت بشكل متعمد؟ وكيف بإمكان سياسي بقسوة وحذر نيكسون أن يسمح لنفسه بالتردي إلى «لص من الدرجة الثالثة»؟»، وبالطبع، فإن غانون كان محقا في الإشارة إلى أن هناك أسئلة من دون إجابات، لكن ليس الأسئلة الكبرى.
والتركيز على ندرة التفاصيل فيما يخص اللصوصية في 17 يونيو 1972، يحرفنا عن القصة الأكبر، وحول هذه القصة، لا يوجد أي سبب يدعونا للظن. في صيف عام 1974، لم تكن الصحافة ولا الديمقراطيون هم من انتفضوا ضد نيكسون، بل الحزب الجمهوري نفسه. في 24 يوليو أصدرت المحكمة العليا بالإجماع (8 ضد صفر) قرارا يقضي بتسليم نيكسون أشرطة التسجيل السرية التي يطلبها المدعي الخاص في قضية ووترغيت.
وقد انضم ثلاثة أشخاص ممن عينهم الرئيس إلى المحكمة وهم وزير العدل وارن برغر، والقاضي هاري بلاكمان، والقاضي لويس باول، إلى هذا الرأي. وبعد ثلاثة أيام، انضم ستة أعضاء من الجمهوريين في اللجنة القضائية في مجلس النواب الأميركي إلى الديمقراطيين في التصويت على توصية لإقامة دعوة على نيكسون بواقع 27 مقابل 11 على تسعة نشاطات تخص إعاقة عمل العدالة في قضية التستر على فضيحة ووترغيت. وبحلول أغسطس، فإن مجموعة من الجمهوريين بقيادة السناتور باري غولدواتر اجتمعوا معا ليصرحوا بأن رئاسته قد انتهت. غولدووتر يقول: «كثير من الأكاذيب، كثير من الجرائم». وفي 7 أغسطس، زارت المجموعة نيكسون في البيت الأبيض. وفي اليوم التالي، ظهر نيكسون على التلفزيون الوطني واعلن انه سوف يستقيل.
سجل حروب نيكسون الداخلية
يوجد اليوم سجل وفير عن قضية ووترغيت، يحوي أكثر بكثير مما كان متوفرا خلال الفترة التي كشف فيها عن هذه القضية، وهذا السجل يقدم أجوبة ودلائل لا لبس فيها حول ووترغيت ومعناها. وهذا السجل قد توسع باستمرار على مدى العقود، مع نسخ مئات الساعات من أشرطه التسجيل الصوتي السرية للرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، الأمر الذي أضاف تفاصيل ومضامين إلى جلسات الاستماع في مجلس الشيوخ والبرلمان الأميركيين، من المحاكمات والإقرار بالذنب لحوالي 40 من مساعدي نيكسون وغيرهم ممن هم على صلة به والذين أودعوا السجن، إلى مذكرات نيكسون الشخصية ومذكرات نوابه. ومثل هذا التوثيق يجعل بالإمكان متابعة سيطرة الرئيس الشخصية على حملة واسعة من التجسس السياسي والتخريب وغيرها من النشاطات غير القانونية ضد معارضيه الحقيقيين والمحتملين.
وعلى امتداد رئاسته التي امتدت 5 سنوات ونصف السنة، أطلق نيكسون وأدار بدءا من عام 1969خمسة حروب متتالية ومتداخلة، ضد حركة مناهضة الحرب في فيتنام، ووسائل الإعلام الإخبارية والحزب الديمقراطي والنظام القضائي وأخيرا ضد التاريخ نفسه. وهذا كله عكس العقلية ونمط السلوك المنتشر على نحو فريد لدى إدارة نيكسون، من استعداده لتجاهل القانون للحصول على مزايا سياسية، ومن سعيه وراء أسرار معارضيه وما يسيء إلى سمعتهم باعتباره المبدأ المنظم لرئاسته. وقبل فترة طويلة من انفضاح ووترغيت، أصبح التسلل والملاحقة والتنصت على المكالمات الهاتفية والتخريب السياسي طريقة حياة في البيت الأبيض خلال رئاسة نيكسون.
شهوة السلطة
يقول كارل برنشتاين وبوب وودوارد، إن السناتور سام إرفين، رئيس لجنة الشيوخ للتحقيق في فضيحة ووترغيت، طرح في ملاحظاته الأخيرة عن ووترغيت السؤال التالي: «لماذا كانت ووترغيت؟» وأجاب عن سؤاله قائلا: «إن الرئيس ومساعديه لديهم شهوة السلطة السياسية»، وأن هذه الشهوة «أعمتهم عن الاعتبارات الأخلاقية والمتطلبات القانونية».
وهما يعتقدان أن الرئيس الأميركي الأسبق نيكسون خسر سلطته الأخلاقية كرئيس، وأشرطته الصوتية المسجلة ربما ستكون ارثه الدائم الكبير، الذي سُمع فيها يتحدث بشكل لا نهائي عما سيكون مفيدا له، وموقعه في التاريخ وأحقاده وعداواته وخططه للانتقام. ويقولان إن ووترغيت التي تحدثوا عنها في «واشنطن بوست» خلال 1972- 1974 ليست ووترغيت كما يعرفها العالم اليوم، كانت مجرد تلاميح لشيء اكثر سوءا، ذلك أنه عندما أجبر نيكسون على الاستقالة، كان قد حول البيت الأبيض إلى مؤسسة إجرامية.
