بدأ القادة الفلسطينيون، أخيراً، في التأكيد أن الإجراءات المستمرة من قبل الحكومة الإسرائيلية وما صحب ذلك من تقاعس عن اتخاذ إجراء من جانب «المجتمع الدولي»، قضى على أي أمل معقول لقيام دولة فلسطينية فعّالة ومستقلة. وقال أحمد قريع، الذي شغل مناصب رفيعة في السلطة الفلسطينية تحت قيادة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات: «ربما لم يعد من الممكن قيام هذا النوع من الدول الذي نريده. الآن يجب علينا أن نختار بين خيارين : إما أن يقبل دولة لا قيمة لها مؤلفة من المعازل التعسة والأحياء الفقيرة البائسة ...

 أو النضال من أجل دولة واحدة موحدة وديمقراطية حيث اليهود والعرب يمكن أن يعيشوا على قدم المساواة في فلسطين، كما كانوا تحت الانتداب. وفي صفوف العديد من القادة الإسلاميين في فلسطين، فإن الأمل في المستقبل موجود الآن فقط في شكل نبوءة قرآنية تتحدث عن قصة انتصار الإسلام في فلسطين كنوع من العقاب على السلوك الشائن الذي تمارسه الدولة الإسرائيلية.

وأياً كان مسار الأمور، سواء عبر دولة موحدة وديمقراطية علمانية أو دولة تجسد المشيئة الإلهية، فإنه ينظر إلى إسرائيل «كدولة يهودية»، على أنها في مرحلة النهاية. بالطبع، هذه ليست الطريقة التي يفكر بها الصهاينة ذوو التوجه السياسي، الذين يقودهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحزبه الليكود. لقد شكّل نتنياهو، أخيراً، حكومة «وحدة» مع حزب المعارضة الرئيسي كاديما، وبذلك يبدو أنه ضمن قيادته السياسية لبعض الوقت في المستقبل. إذن، أي نوع من سيناريو يسعى هؤلاء الصهاينة لتحقيقه في الحاضر والمستقبل؟

السيناريو الصهيوني

كيف يرى القادة الصهاينة المستقبل؟ بقدر ما استطيع فهم الوضع، هذا هو السيناريو الذي يطرحونه:

1 ـ القيادة الصهيونية ترى أن النصر (بما في ذلك استيلاء إسرائيل على كامل أرض فلسطين من البحر المتوسط إلى نهر الأردن، بل إن البعض يتوق إلى ضم الأردن) أمر لا مفر منه. وتعده مسألة وقت فحسب. ويستند هذا التقييم على علاقات القوة.

2 ـ أ- النصر يعني التطهير العرقي للأرض من معظم أصحابها الفلسطينيين، وهي لا تزال جارية. ويتم حاليا بذل كل جهد ممكن لإجبار أكبر عدد ممكن على المنفى. ويتم ذلك عن طريق تطبيق سياسة مستمرة لجعل الحياة بائسة لجميع المواطنين من غير اليهود في الأراضي التي تسيطر عليها اسرائيل.

وعلى سبيل المثال، فإنه من المفروض في إسرائيل (إن لم يكن في الولايات المتحدة) أن «وحشية الشرطة ضد الفلسطينيين كانت روتيناً لعقود من الزمان». ومن يرفضون الرحيل، رغم ذلك، يجري تقييد إقامتهم في مناطق معينة وتهميشهم اقتصاديا. ويتردد في كثير من الأحيان أن النموذج الذي استلهمت منه الحالة الأخيرة معازل الهنود الحمر في الولايات المتحدة على نحو ما كانت حوالي عام 1870. وبالفعل، فالمسألة بالنسبة للصهاينة هي أن هذا النموذج يمكن ترشيده بشكل أكثر سهولة من الأحياء اليهودية في أوروبا القديمة.

2 ـ ب- وفي إطار هذه العملية من التطهير العرقي، فإن عدد الفلسطينيين الذين يموتون ليس مهماً بالنسبة للقيادة الصهيونية. الفلسطينيون، مثل الهنود الحمر، لا ينظر إليهم على أنهم بشر. فإذا كان بوسع الصهاينة التخلص منهم جميعاً دون أن يتسبب ذلك في تداعيات دولية خطيرة فإنهم سيفعلون ذلك.

مشكلات السيناريو الصهيوني

1- اسرائيل ليست قوة عظمى مثل الصين، ولا تحتل بقعة شبه منسية من العالم مثل سريلانكا. فهي تحتل مساحة كبيرة على الخريطة بقدر ما تشعر أعداد هائلة من الناس بالقلق، المؤيدون والمعارضون على حد سواء. وبالطبع، فإن إسرائيل مستمرة في التمتع برعاية وحماية قوة عظمى، وهي الولايات المتحدة. ولكن، هذا يمكن أن يتغير في المستقبل بقدر استبعاد إمكانية تغيره في الوقت الحالي.

2 ـ لم نعد نعيش في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، و لم تعد السيطرة الاستعمارية الصريحة تلقى التحبيذ. والطريقة الوحيدة التي يمكن لإسرائيل أن ترتكب بها جرائم دون عقاب هي بأمرين: العزف على وتر المحرقة، والمحافظة على النفوذ السياسي لجماعات الضغط التابعة لها. فالممارسة الأولى تضعف بسرعة في كل مكان تقريباً يوجه المرء ناظريه إليه.

والثانية، من ناحية أخرى، هي المفتاح لرعايتهم وحمايتهم. إلا أن جماعات الضغط تتنامى في الوقت الراهن، والمقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات الدولية مستمرة. والأعوام الخمسة والتسعون الماضية من الدعم الغربي القوي للأهداف الصهيونية السياسية (المنبثق من وعد بلفور) لا تجعل المستقبل مستقراً للإسرائيليين وأنصارهم الأيديولوجيين.

3 ـ في الوقت الذي يغزون فلسطين فهم يدمرون اليهودية. وهنا تكمن أكبر مفارقة، وهي أن النجاح النهائي للاستراتيجية الصهيونية يمثل الإفساد المطلق لليهودية الرسمية المنظمة. ويرجع ذلك إلى أن مثل هذا النجاح يضمن صفقة شيطانية تربط الجانب المنظم لهذا الدين بأهداف عنصرية ومعادية للبشرية للفكر الصهيوني. فالمسمار الأخير في نعش الدولة الفلسطينية يأتي بمثابة المسمار الأخير في نعش اليهودية الرسمية.