اتسم الصراع في أفغانستان دائماً بأنه عبارة عن حرب مفاهيم بقدر ما كان واقعاً على الأرض. فقد كانت الخطوط الأمامية في كثير من الأحيان غير مرئية. قدرة أي بطل على تقديم صورة للهيمنة لا تقل أهمية عن أي قبضة حقيقية على الأرض. لذلك فليس من المستغرب أنه مع الإعلان عن افتتاح موسم القتال الصيفي الجديد من قبل المسلحين، و اقتراب موعد انعقاد القمة الرئيسية المقبلة لحلف "ناتو" في شيكاغو، فإن الجهود المبذولة لكسب اليد العليا في معركة المحاورة تتسم بأنها مكثفة.
توجه الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى العاصمة الأفغانية كابول، وأعلن أن القوات الأميركية في أفغانستان، المقرر انسحابها على وجه السرعة على امتداد الأشهر الـ 18 المقبلة، كانت في الواقع تحقق الانتصار. و ردّد كبار المسؤولين ما قاله أوباما. و شنّ مسلحون هجوماً جريئاً ضد مجمع يستخدمه مقاولون غربيون في كابول ومن ثمّ قاموا بقتل أرسالا رحماني، الذي كان مسؤولاً كبيراً سابقاً في حركة طالبان وعضو في مجلس السلام المدعوم من قبل الولايات المتحدة، وهو الذي شارك في مفاوضات السلام.
رسالة طالبان
وقد فضلت حركة طالبان دوماً العنف وفقاً لرسالتها. وعلى الرغم من أن المتمردين نفوا رسمياً الضلوع في قتل رحماني، فإن إنكارهم هذا غير قابل للتصديق. اغتيال رحماني يرسل رسالة واضحة، مفادها أن المشاركة كوسيط في عملية سلام مترنّحة تعد مخاطرة بالتعرض للموت. كما أنها تفيد بوضوح أن هناك العديد من المسلحين الذين لا يريدون التفاوض.
القضايا الرئيسية التي ستناقش في قمة شيكاغو تتركز جميعها على "حقبة ما بعد التدخل الدولي" الوشيك الآن. فمن الواضح للجميع أن الغرب يريد الخروج من أفغانستان، وفي أسرع وقت ممكن. وسيطلب من دول الحلف دفع فاتورة، وبعض الجهد، للحفاظ على جيش أفغاني يصل قوامه إلى مئتي ألف رجل لمواصلة "العمليات الأمنية". وهذا سوف يكلف حوالي 4 مليارات دولار، وهو ثمن باهظ بما فيه الكفاية، ولكنه أقل بكثير من مبلغ المئة مليار دولار أو أكثر سنوياً الذي يعتقد أنه يشكّل تكلفة الحرب حالياً.
التخطيط للمستقبل
منذ عام 2009، دائماً ما كان يتحدث هؤلاء الضباط ونظراؤهم المدنيون بشأن تسوية سلمية محتملة كعنصر رئيسي آخر في التخطيط للمستقبل. لكن المحادثات تعثرت بسبب مجموعة من الفصائل المختلفة المشاركة في جميع الجوانب و بسبب برامجهم المختلفة. هناك صقور و حمائم غربيون كما يوجد نظائر لهم في حركة طالبان.
واتسم موقف الرئيس الأفغاني حامد قرضاي بالمراوحة. وتظهر الوثائق التي تمت مصادرتها من المجمع الذي كان يختبئ فيه أسامة بن لادن وجود اتصالات وثيقة بين قادة تنظيم القاعدة والملا محمد عمر، وهو القائد الأعلى لحركة طالبان، في حين تكشف مقابلة أجرتها وكالة "أسوشيتد برس" مع أحد كبار مسؤولي طالبان المؤيدين للتفاوض عن وجود انشقاقات في صفوف المتمردين. ثم إن هناك لاعبين إقليميين أيضاً.
لابد أن الانطباع العام الآن يؤكد على أن هناك، رغم الدبلوماسية العامة قبيل انعقاد القمة، أملاً حقيقياً في التوصل لاتفاق مع المتمردين قبل عام 2014، أو ربما لفترة طويلة بعد ذلك.
إذن، فما هي السيناريوهات المحتملة لمرحلة ما بعد التدخل الدولي في أفغانستان؟
حسناً، يمكن الوثوق في المراوحة المتفائلة و التطلع براحة نفس إلى وجود قوات أمن أفغانية تتسم بالكفاءة وممولة تمويلاً جيداً وبقيادة جيدة و الاضطلاع بالمهام التي خلفها حلف "ناتو"، و في انتخابات أميركية رئاسية سلسة في عام 2014، و في قرارات عقلانية تتخذها القوى الإقليمية على أساس أفضل مصالح مشتركة لها، وفي مواصلة الاهتمام السياسي في الغرب.
أو قد يمكنك التنبؤ بالعودة إلى فوضى عقد التسعينات، وهي حرب إقليمية و عرقية مركبّة، مع رغبة جماعات متطرفة بإقامة قواعد على امتداد أكثر من نصف البلاد، مما يعد ارتداداً لأي تقدم تم إحرازه أخيراً، و امتداد العنف إلى الدول المجاورة. والسيناريو الأكثر احتمالا، باعتقاد البعض، هو أمر بين الاثنين. و هذا من شأنه أن يسفر عن أمر قبيح للغاية وغير مستقر وغير مريح بالنسبة لجميع الأطراف المعنية (على الرغم من أنه قبل كل شيء سوف يشمل كلك الأقليات والنساء) ولكنه ليس ما يتوقعه البعض بأنه نهاية العالم. سوف تبقى بعض الجيوب الأمنية، و سوف يستمر بعض النشاط الاقتصادي من وراء تجارة المخدرات، وسيتم تجنب نشوب حرب أهلية شاملة فحسب. تترنح أفغانستان من أزمة إلى أخرى، في ظل حلول ضعيفة لكل أزمة، دون أن تنهار داخلياً بشكل كارثي أو تجد طريقها إلى أي سلام. وتظل التكلفة البشرية، بطبيعة الحال، مرتفعة للغاية.
على الأقل إذا رأينا معركة المراوحة الحالية على ما هي عليه، إذن فمن الممكن أن نتصور أن واضعي السياسات والخبراء الاستراتيجيين يعترفون فعلياً بالواقع التعيس الذي تواجهه أفغانستان في السنوات المقبلة على الرغم من خطبهم الرنانة أمام الرأي العام. قد يكون الأمل ضئيلاً، ولكنه مع ذلك مريح. فهل يعدّون للتعامل مع الأحداث على مدى العقد المقبل بشكل أكثر معقولية مما فعلوه في الماضي؟ عسانا ألا نمضي إلى هذا الحد.
توقعات غربية
بين الزيادة والنقصان في القوات الأفغانية، هناك بعض الأمور الواضحة. فقد تم ربط التوقعات الغربية مرة أخرى إلى درجة يمكن أن تكون مسلية بشكل كئيب في ظروف أخرى. وقال الجنرال جون ألين، وهو القائد الأعلى لقوات حلف "ناتو" في أفغانستان، إن استراتيجيته الجديدة تنطوي على "تقليص المخاطر مبكراً"، مما يعني تسليم مناطق في أفغانستان حيث يكون القتال أصعب في أقرب وقت ممكن. ويقول إن هذا سوف يسمح بفترة أطول من دعم القوات الدولية قبل أن تنسحب. وقد يكون هذا معقولاً. وربما كان ذلك عذراً زائفاً للمبادرة إلى الهرب بشكل أسرع. وفي كلتا الحالتين، فهو العكس تماماً لما قاله كبار الضباط منذ عام
