تعلم المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر أن يتعامل مع الاشتباكات الجريئة والثورية التي تجري في ميدان التحرير في وسط القاهرة، على مسافة بعيدة منه. ولكن هذه المرة كان "مثيرو الشغب" على مرمى حجر من عرين المجلس في ميدان العباسية الذي كان مسرحا لاشتعال دموي آخر في القاهرة، وهو وزارة الدفاع التي ظلّ المشير حسين طنطاوي، وهو الذي تولى السلطة بعد سقوط الرئيس المصري السابق حسني مبارك، على رأسها لأكثر من 20 عاما.

وبدا ميدان العباسية، الذي يقع على مقربة من معقل تعليمي آخر معارض قوي للجيش وهو جامعة عين شمس، أشبه بساحة قتال. و تناثرت الحجارة في كل مكان وتم اقتطاع القضبان المعدنية من أسوار المرور لاستخدامها كسلاح في المعارك التي اندلعت خلال الأيام الماضية.

ما الذي جرى

وبشكل أكثر وضوحاً، فقد وقفت عدة صفوف من الجنود وراء الأسلاك الشائكة وبجانب العربات المدرعة والدبابات يطوقون وزارة الدفاع المحصنة لمنع المتظاهرين من الوصول إلى هدفهم. وبدا الأمر كأن المجلس العسكري وقع تحت الحصار. وهتف أحد الشبان المتظاهرين الملتحين في مكبر صوت: "أصبح ميدان التحرير مثل هايد بارك في لندن، تعالوا إلى هنا".

لم يكن حشداً ضخماً، ولكن على الرغم من الهجمات الشرسة المتكررة من جانب البلطجية، فقد صمد المتظاهرون و انضمت إليهم مجموعات أخرى غاضبة بسبب حدوث قتلى. تصاعد العنف ضد المحتجين، كما حدث أثناء ذروة الاحتجاجات التي أطاحت بالرئيس المصري السابق مبارك العام الماضي، جعلت الناس مرة أخرى ينسون اختلافهم الأيديولوجي.

لقد كانت الصدامات في العباسية عبارة عن حمام دم في انتظار أن يندلع. وتم قمع المحاولات السابقة لتنظيم مسيرة إلى وزارة الدفاع في العام الماضي من قبل شباب يساري و ليبرالي مرة أخرى على يد الشرطة العسكرية الشرسة. وقد تمت مساعدتهم في القمع العنيف حينئذ، مثلما يجرى الآن، على أيدي بلطجية مسلحين بالمناجل. كذلك ساعدتهم حقيقة أن الشباب المتطرفين كانوا يعتمدون على أنفسهم. في ذلك الوقت، كان عدد كبير إلى حد ما من الإسلاميين الأفضل تنظيما لا يزالون يحظون بعلاقة ودية لفترة وجيزة مع المؤسسة العسكرية.

ومنذ اللحظة التي قررت فيها حشود السلفيين، من أتباع المرشح الغوغائي السابق للرئاسة حازم صلاح أبو إسماعيل، الخروج في مسيرة إلى وزارة الدفاع احتجاجا على قرار استبعاد زعيمهم من السباق الرئاسي، لم يكن الأمر سوى مسألة وقت.

وانضمت إليهم في نهاية المطاف مجموعة متنوعة من الشباب، جميعهم متحدون في كراهيتهم للحكم العسكري والشك العميق في وضع نهاية لحكم العسكر. الإصرار من جانب الجيش على أن العنف وحالات القتل لم تكن خطأه أثار غضب الجميع. وتوحّد الاسلاميون والساسة العلمانيون في مسألة إلقاء اللوم على المجلس العسكري.

في جميع المواجهات السابقة، ألقى الجيش مسؤولية حالات القتل على كاهل "الطرف الثالث"، في بعض الأحيان حدث ذلك في مواجهة أدلة دامغة على عكس ذلك. هذه المرة في العباسية، فإن بعض المهاجمين ربما يكونون من سكان المنطقة وأصحاب المحال التجارية الذين يخشون على سبل عيشهم.

ولكن ليس هناك شك في أذهان كثير من الناس أن الهجمة القاتلة جاءت من البلطجية المأجورين أو العسكريين بثياب مدنية (المشار إليهم باسم الميليشيا التابعة للجيش). و قد كان استخدام البلطجية المأجورين ولا يزال ممارسة شائعة لتخويف المعارضين، للتسلل إلى المظاهرات و تفريقها.

قبل عام، كانت عبارة "يسقط حكم العسكر" شعاراً ترفعه مجموعة هامشية، وهم الاشتراكيون الثوريون. أما اليوم، فقد تبناه جميع الناشطين تقريبا، بمن فيهم الإسلاميون الذين كانوا أصدقاءً سابقين للعسكريين.

لحظة الأزمة

فهل تقترب لحظة الأزمة؟ وهي المواجهة النهائية التي يخشاها الكثيرون، كما كان العديد يريدون أن يحققوا قطيعة واضحة مع نظام مبارك من خلال اجبار طنطاوي ورجاله على الخروج. ربما يكون الأمر كذلك.

المشكلة هي من الذي سوف يتقلد السلطة. لقد اصطدمت المسارات السياسية والدستورية بطريق مسدود. فلم يتم التوصل حتى الآن إلى أي اتفاق بشأن معايير اختيار الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور الجديد. وعلى الرغم من أن الانتخابات الرئاسية على الأبواب، فإن وجود رئيس بدون دستور جديد يمكن أن يودي بالبلاد إلى أزمة شرعية أو إلى رئيس يمتلك صلاحيات مبارك المطلقة، وهو ما لا يريده أحد. و تسود حالة من التفكك بين الطبقة السياسية التي من المفترض أن تحل محل المجلس العسكري الحاكم والطبقة القديمة العنيدة وتمزقها الخلافات العميقة.

ورغم ذلك، فإن هناك أمراً مؤكداً وهو أن مصر بعد الاشتباكات التي وقعت في العباسية تعيش حالة من التوتر والتمرد، و الإشارة الرمزية التي يرسلها المجلس العسكري لمعارضيه، مفادها عرض بالتنحي المبكر (ولكن في حال تم انتخاب رئيس بالأغلبية المطلقة).