تبدو بعض الحروب الدموية الأكثر وحشية في القارة الافريقية كما لو أنها لا تنتهي، والسبب بسيط جدا، وهو أنها ليست حروبا حقا، ليس بالمعنى التقليدي للحروب على أقل تقدير. فالمتحاربون ليس لديهم الكثير من الأيديولوجية، وأهدافهم ليست واضحة.
ولا يعنيهم الاستيلاء على العواصم أو المدن الرئيسة، بل يفضلون في الواقع أعماق الأدغال، حيث يسهل ارتكاب الجرائم. ويبدو متمردو اليوم غير مكترثين بكسب أنصار جدد، ويكتفون في المقابل بخطف الصبية الصغار، وتسليحهم ببنادق الكلاشنكوف والفؤوس، وتحويلهم إلى قتلة. ولننظر عن كثب إلى صراعات القارة الأشد ضراوة، من مواقع المتمردين في منطقة دلتا النيجر إلى جحيم جمهورية الديمقراطية للكونغو.
حالة تراجع
وما نشهده حاليا هو حالة من التراجع في حركة التحرير الوطني الإفريقية الكلاسيكية وانتشار لشيء آخر اكثر وحشية وفوضوية وعنفا وأصعب على الإدراك.
وإذا كان هناك من يريد ان يطلق على هذا الوضع حربا فليكن، لكن ما ينتشر عبر إفريقيا مثل الوباء الفيروسي اليوم، ليس إلا وصولية بحتة ولصوصية مدججة بالسلاح.لقد شهدنا عن قرب كيف تحول القتال من عسكري إلى مدني، وهذا نادرا ما يحدث اليوم في إفريقيا، ومعظم مقاتلي أفريقيا اليوم ليسوا ثوارا يشهرون قضية، بل حيوانات مفترسة، لهذا نشهد هذه الفظائع المروعة في شرق الكونغو. والرعب أصبح غاية، وليس مجرد وسيلة.
وهذه هي القصة على امتداد معظم إفريقيا، حيث نصف دول القارة الـ53 تقريبا تشكل موطنا لصراع قائم، أو لصراع انتهى منذ فترة وجيزة. ومناطق هادئة مثل تنزانيا هي استثناءات، وحتى كينيا المليئة بالسياح والتي يمكن التنقل في أرجائها بسهولة شهدت انفجارات في السنوات الأخيرة. وإذا جمعنا الإصابات في الأرواح في عشرات البلدان الإفريقية، فان الخسائر تصل إلى عشرات الألوف من المواطنين في كل عام.
وبالطبع، كان العديد من صراعات الاستقلال المتعلقة بالجيل السابق دموية أيضا، فانتفاضة جنوب السودان التي دامت عقودا من الزمن يعتقد أنها كلفت أكثر من مليونين من الأرواح. لكن الأمر لا يتعلق بالأرقام، بل بالوسائل والأهداف، والقادة الذين يقودون هذه الصراعات.
وقائد حرب العصابات في أوغندا في ثمانينات القرن الماضي، يوري موسيفيني أصبح رئيسا لأوغندا في عام 1980، ولا يزال في منصبه، وهذه تعد مشكلة أخرى، وقصة أخرى. لكن كلماته تبدو نبيلة بصراحة مقارنة مع زعيم الثوار المشهور في أوغندا اليوم، جوزيف كوني، الذي لا يصدر أوامر إلا بالحرق والإبادة.
الطريقة الوحيدة
والطريقة الوحيدة لإيقاف ثوار اليوم يكون في إلقاء القبض على زعيمهم أو قتله. كثيرون منهم من الشخصيات الملتوية بطريقتها الخاصة، ومنظماتهم ستختفي على الأرجح ما ان يختفوا عن مسرح الأحداث.
وهذا ما حصل في أنغولا عندما اطلق النار على زعيم تهريب الألماس، جوناس سافيمبي، فقد أدى قتله إلى نهاية فورية للصراعات الأكثر حدة منذ أيام الحرب الباردة.
وفي ليبيريا، شكلت اللحظة التي اعتقل فيها تشارلز تايلور، أمير الحرب المتوج رئيسا في عام 2006، اللحظة نفسها التي اسدل فيها الستار على السيرك الشنيع لمجرمين مقنعين لا تزيد أعمارهم على 10 سنوات. لقد بددت الأموال الطائلة وأزهق عدد لا يحصى من الأرواح خلال جولات من المباحثات غير المجدية، التي لم تصل إلى نتائج محسومة قط. والشيء نفسه يمكن قوله حيال لائحة الاتهامات الموجهة من قبل محكمة الجنايات الدولية لقادة ثوار ارتكبوا جرائم بحق الإنسانية، ذلك أن المقاتلين لن يتخلوا عن سلاحهم في ظل احتمال أن الملاحقة القضائية تلوح في الأفق.
كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ ربما الأمر مجرد حنين إلى الماضي، لكن ثوار أفريقيا السابقين يبدو أنهم كانوا يتحلون بقدر زائد من الرقي بالمقارنة مع الحاليين. كانوا يحاربون ضد الاستعمار والطغيان والفصل العنصري. والمتمردون الفائزون أتوا في معظم الأحيان، بزعيم ساحر ذكي يستخدم ببراعة خطابا مقنعا. هؤلاء كانوا رجالا مثل جون غارانغ الذي قاد الانتفاضة في جنوب السودان بجيش التحرير الشعبي السوداني، لقد اقتلع فوز شعبه ببلادهم، وهذا لم يستطع تحقيقه في أي مكان في العالم، سوى حفنة من الزعماء الذين خاضوا حروب العصابات.
