تستعد الولايات المتحدة في مواجهة محن اقتصادية ومالية عميقة للانسحاب من أفغانستان، فهناك أعداد متزايدة من الأميركيين تطالب بسحب غالبية قوات بلادهم من هناك بأسرع فرصة ممكنة، وقيام واشنطن بالتحول من استراتيجية مكافحة التمرد المكلفة، القاضية بقيام عشرات الألوف من الجنود الأميركيين والتابعين ل "ناتو" بحماية الشعب الأفغاني، إلى استراتيجية مكافحة الإرهاب الأقل تكلفة، حيث قوات عمليات خاصة تقوم بتوجيه ضربات ضد قادة المسلحين في أفغانستان وباكستان، تاركة الأفغان يواجهون مصيرهم بمفردهم.
وطالبت مجموعة صغيرة من دعاة استراتيجية مكافحة الإرهاب، وبالتحديد نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، بإبقاء مستشارين عسكريين، أو ما سمي ب "مدربين"، وهو تعبير يدل على دور غير قتالي في أفغانستان بعد عام 2014، لكن هذه المقترحات لم تكن مفصلة بما فيه الكفاية.
وعلى الأرجح، سيقوم القادة العسكريون الأميركيون إبان عملية الانسحاب بنقل مثل هذه الوحدات الاستشارية الأميركية إلى القواعد الكبيرة أو حلها بالكامل. وعلى نحو مماثل، فان المسؤولين المدنيين الأميركيين العاملين مع نظرائهم الأفغان في الريف سينسحبون على الأرجح، في مواجهة انسحاب عسكري، إلى السفارة في كابول وبعض القنصليات. بالتالي، سينتهي المطاف بالجنود والمدنيين الأميركيين، الذين تشعر أفغانستان بأنها بأمس الحاجة إليهم للحفاظ على تماسك البلاد ، في مناطق نائية بعيدة جدا عن المواقع التي تعد مهمة لإحداث تغيرات بارزة.
وعلى الأرجح، لن تبقي مثل هذه الاستراتيجية الخاصة بمكافحة الإرهاب أفغانستان متماسكة. فما ان تنسحب القوات الأميركية، حتى يبدأ مقاتلو طالبان المقيمين في باكستان بتصعيد هجماتهم ضد ولايات أفغانية حيوية، والعمل في الوقت نفسه على كسب التأييد الشعبي من خلال استغلال ميل الحكومة الأفغانية وحلفائها المحليين للتشاحن فيما بينهم وإساءة معاملة الشعب. وعلى الرغم من زيادة أعداد قوات الجيش والشرطة والميلشيات القبلية في السنوات الأخيرة ناهيك عن تعزيز قدراتهم، إلا أنها لن تكون قادرة على صد طالبان من دون مساعدة القوات الأميركية، حيث تنقصها القدرة على توجيه الضربات الجوية، على سبيل المثال، ويعانون من عيوب لوجستية عدة.
ومن المرجح ان تخسر الحكومة المركزية الأفغانية السيطرة على مناطق البشتون في الشرق والجنوب، وستصبح كابول خط الجبهة الأمامي، وستتحول إلى أنقاض مجددا. وستزداد مهمة محاربة الإرهاب صعوبة، حيث ستجف مصادر المعلومات الاستخبارية في الوقت الذي ستعمل طالبان على إخافة الأفغان من العمل مع الحكومة، وسيصبح التخلي عن القواعد الأمامية أمرا لا مفر منه لأنها ستكون مطوقة من المتمردين، والمنطقة القبلية في باكستان ستصبح أبعد منالا. أما الحكومة الأفغانية، المدفوعة إلى موقف دفاعي، فستكون عاجزة عن منع عودة القاعدة إلى قلب مناطق البشتون الشاسعة.
وبعبارة أخرى، ففي الوقت الذي لم يعد ممكنا الاستمرار باستراتيجية شاملة لمكافحة التمرد، فإن الاعتماد على إستراتيجية محضة لمكافحة الإرهاب ، لا تبدو أكثر جاذبية، حيث أنها قد تسبب في ارتداد أفغانستان على الوراء بسرعة ربما بشكل لا رجعة فيه، منتزعة في طريقها قدرة أميركا على قتال القاعدة.
وإنقاذ الحرب لن يتطلب 100 ألف جندي، بل إن انسحابا تدريجيا ثابتا يترك وراءه ألوف العسكريين والمستشارين المدنيين الأميركيين في البلاد بعد عام 2014، مع قوات عمليات خاصة وقوة جوية، يعد بديلا قابلا للتطبيق.
وتستطيع أميركا، بالاعتماد بشكل اكبر على فرق نخبوية صغيرة من المستشارين تقيم في الميدان وتعمل جنبا إلى جنب مع الأفغان، تمكين الحكومة الأفغانية من صد حركة طالبان بتكلفة معقولة. وهذه الاستراتيجية تختلف بشكل دراماتيكي عن إستراتيجية مكافحة الإرهاب، لأنها تعطي الأولوية لإبقاء أفغانستان متماسكة. وإستراتيجية المستشارين ليست قادرة على تامين استقرار أفغانستان وأمنها فحسب، بل تقدم أيضا أنموذجا إستراتيجيا لعصر أميركي جديد من التقشف أيضا.
ميزة تكتيكية
وتستطيع أميركا أن ترسم خطا لتاريخ طويل وناجح من عمليات نشر مستشارين لمحاربة المتمردين في الخارج، وتم ذلك بدءا من عام 1950 عندما ساعد الكولونيل في الجيش الأميركي إدوارد لانسدايل وعشرات من المستشارين العسكريين، الرئيس الفلبيني رامون ماغسايساي، في هزم التمرد الشيوعي في بلاده. وقصة نجاح أخرى أكثر حداثة وشهرة حدثت في السلفادور، حيث قامت حفنة من المستشارين العسكريين والمدنيين الأميركيين في الفترة الممتدة بين عامي 1981 و 1989، بدعم وصول ما يقرب 8.7 مليارات دولار من المساعدات إلى البلاد، مما مكن الحكومة السلفادورية من صد 10 آلاف من مقاتلي حرب العصابات حتى عام 1992، عندما اجبر المتمردين على توقيع اتفاق سلام في أعقاب خسارة المساعدات من الاتحاد السوفييتي وكوبا.
وقد تم تكرار مسار مشابه في كولومبيا. وأخيرا، في أفغانستان نفسها، قام ما يقل عن 10 آلاف عنصر من قوات العمليات الخاصة الأميركية وقوات مشاة البحرية الأميركية والجنود المرافقين للتحالف الشمالي وحلفاء للرئيس حامد قرضاي من قبائل البشتون، بطرد طالبان عام 2001، وهذا يعد مثالا جيدا عما يمكن تحقيقه ببضعة رجال.
وفي كل حالة من هذه الحالات، ركز المستشارون على دعم حكومة قائمة، أو تحالف محلي كما في حالة أفغانستان، بدلا من خوض قتال مستقل أو القيام بعمليات مكافحة إرهاب من تلقاء أنفسهم. ولهذا يمثل العراق عام 2004 وأفغانستان عام 2006 مثالين قد لا تنطبق عليهما استراتيجية المستشارين، أخذا في الاعتبار ان الجيوش المضيفة كانت قد هزمت بالكامل، وفي أي من الحالات السابقة، لم يكن للخصوم ميزة إيجابية مادية وعددية مثل الطائرات والمدفعية أو الدروع.
باختصار، حيثما تحلت القوات الأمنية للبلد المضيف بالحوافز والمهارات القتالية الأساسية للوقوف والقتال من دون مواجهة مخاطر جسيمة، استطاعت فرق صغيرة من الجيوش الأجنبية والمستشارين المدنيين تأمين ميزة تكتيكية وتماسك سياسي ضروري لصد الخصوم، إذا لم يكن هزمهم بالكامل.
إسناد أميركي
ويوجد ألوف الجنود والمستشارين المدنيين الأميركيين حاليا في أفغانستان، حيث ترافق فرق من المستشارين العسكريين، يتراوح حجمها من 12 إلى 28 جنديا أميركيا أو من وحدات المارينز، عناصر من وزارة الدفاع والداخلية في كابول وصولا إلى كتائب الجيش والشرطة في الأقاليم على الجبهات الأمامية، ويعيش عناصرها في الغالب ويعملون ويقاتلون جنبا إلى جنب مع نظرائهم الأفغان.
وخارج الوديان الجبلية المعزولة لكونار ونورستان، تتغلب قوات الجيش والشرطة الأفغانية إجمالا على المتمردين في العمليات اليومية، لكنها لا زالت تعتمد على الأسناد النيراني والجوي واللوجستي الأميركي، وعلى المستشارين الأميركيين لتنسيق مثل هذا الدعم.
وهذه مسائل تقنية لا يمكن علاجها بسهولة، فاستدعاء ضربات جوية على سبيل المثال يتطلب تدريبا خاصا ومعدات مشفرة، وهذا يعني ان قيمة الطائرات الأميركية وطائرات "ناتو" محدودة جدا بالنسبة للأفغان إذا لم يكن معهم مستشارين.
وتعاني الوحدات الأفغانية أيضا من تأخر وصول الإمدادات والذخائر، ويستطيع المستشارون المساعدة في تامين وصولها في الوقت المناسب من المخازن والمستودعات، كما يؤدون دورا معنويا، بإضفاء القيم التي تساعد في بناء قوات جيش وشرطة أفغانية يمكنها دحر طالبان، ليس هذا فحسب، وإنما خدمة الشعب الأفغاني والدفاع عنه على المدى الطويل بعد ذلك.
وإلى جانب نظرائهم العسكريين، فان المستشارين المدنيين يعملون في أفغانستان منذ عام 2001، كجزء من فرق إعادة بناء الأقاليم في الغالب. وعلى المستوى المحلي الأصغر، فإن 38 إقليما أفغانيا لديها فرق دعم مماثلة، ويعطي المستشارون المدنيون التوجيهات لحكام المقاطعات والأقاليم، ويعملون على تحسين إدارة الحكم وتقليص الفساد ودفع التنمية الاقتصادية.
ووجود المستشارين العسكريين والمدنيين والسياسيين يخدم هدفا آخر، يتمثل في إعادة الطمأنينة للأفغان بان القوات الدولية لن تسلم بلادهم إلى طالبان. ومع رحيل القوات الأميركية عن أفغانستان، بإمكان المستشارين أن يتصرفوا كرمز لالتزام أميركا المستمر، ويظهر للأفغان أن دعمهم للحكومة لن يذهب سدى. ووجود المستشارين سوف يومئ لحلفاء ناتو وباكستان، والمنافسين الإقليميين مثل الصين وغيرها، بان التزام أميركا بأفغانستان سيدوم، ولو في صيغة معدلة ومخفضة.
وجود سياسة قائمة على المحافظة على مستشارين في مواقع مهمة استراتيجيا لا يفترض به أن يستنزف المال والدم الأميركيين. وفي الوقت الحالي ، فإن ما يتراوح بين 8000 و 12500 مستشار عسكري يعملون مع 170 الف جندي أفغاني و136 الف ضابط أفغاني.
