قام ستيوارت باتريك المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية، بكتابة تنبؤ جريء في مجلة فورين أفيرز الأميركية، في أعقاب سقوط نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي في ليبيا الصيف الماضي، قال فيه: شكل سقوط طرابلس التطبيق العسكري الأول الواضح لقاعدة مسؤولية الحماية، والهزيمة المطلقة للقذافي أعطت على ما يبدو دفعاً جديداً للتدخل الإنساني.

وحجة باتريك أيدتها في الظاهر مذكرة رئاسية تحت عنوان دراسة توجيهات حول الفظائع الجماعية، تفصل لائحة بخيارات سياسية محتملة في وجه انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان. ويقول باتريك عن هذه المذكرة جازماً: إنها وثيقة تشكل نجاحاً مهماً لـ سامانثا باور المساعدة الخاصة للرئيس الأميركي باراك أوباما، التي يعود لها فضل إقناع الرئيس الأميركي باراك أوباما بدعم القوات المعادية للقذافي عسكرياً.

 

في الذكرى الأولى

كان هذا في الماضي، أما اليوم في الذكرى الأولى للانتفاضة ضد النظام ووجود ليبيا في حالة من الاضطراب المتزايد، فإن ما بدا مؤكداً في الصيف الماضي يبدو الآن أقل إقناعاً. فتقرير حديث صادر عن مجموعات تعنى بحقوق الإنسان وصحافيين أوضح بجلاء ان البلاد قد تدهورت إلى إقطاعيات متنافسة تسيطر عليها ميلشيات متنازعة، وهذا ينطبق على أقل تقدير على مصراته التي قالت صحيفة غارديان البريطانية أخيراً إنها نصبت نفسها دولة منفصلة بسجونها الخاصة ونظامها القضائي.

وتنتشر انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد في الوقت الذي يعشعش الفساد، حيث ان دولة ما بعد القذافي الجديدة بدلاً من أن تندمج في مؤسسات هادفة أصبحت أكثر تشرذماً بمرور الوقت.

وكما قال إيان مارتن، مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا أخيراً: ربما يكون النظام السابق قد أطيح به، لكن الحقيقة المرة تكمن في ان الشعب الليبي يستمر في الاضطرار للعيش بإرثه عميق الجذور، حيث مؤسسات الدولة الضعيفة وأحياناً الغائبة، والتي يرافقها غياب طويل الأمد للأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في البلاد، تجعل من عملية الانتقال أمراً شديد الصعوبة، ودروس ليبيا تضيف زخماً للتساؤل حول متى ينبغي توظيف التدخل العسكري وأشكال هذا التوظيف، ذلك أن ليبيا بدلًا من أن تشكل نجاحاً واضحاً، برهنت مجدداً على حدود التدخل العسكري لتغيير الأنظمة ومظاهره المختلفة.

في العراق وأفغانستان، وفي كوسوفو بدرجة أقل، والآن في ليبيا، ترك التدخل وراءه سلسلة من الدول الضعيفة والفاسدة، حيث يسود العنف في كثير من الأحيان، في حين لا يوجد على الإطلاق ما يشبه ديمقراطية حقيقية.

وينبع جزء من المشكلة من سذاجة كلية فيما يتعلق بشروط مبدأ التدخل، التي عملت على افتراض أن إزالة نظام سيئ يجب ان تقود حتماً إلى نتيجة أفضل. ووجهة النظر تلك تنبع من فهم مشوش حول كيفية تفاعل مفاهيم الشرعية واستخدام القوة في أوقات الحروب، وكيف أن التاريخ الحديث للصراعات يمكنه أن يوجد المناخ الذي ينذر بمزيد من العنف.

بعد سقوط طالبان ونظام صدام حسين، بذلت جهود لإعادة تكوين المجال السياسي بدعم من موارد هائلة، وإن كانت في النهاية خرقاء ومعيبة للغاية. وفي ليبيا، فإن تدخلاً خفيفاً أعقبه جهد لإعادة البناء يتصف بالمزيد من الخفة ينهار الآن مظهراً نتائج كارثية ما فتئت تزداد سوءاً.

ومن المؤكد أن فشل التدخلات العسكرية الأخيرة الجلي للعيان، بدلاً من إعطاء دفع للتدخل كما يزعم باتريك، كان سبباً في التهويل بنواقص التدخل وأوضاع الغموض التي تكتنفه، وهذا الفشل طرح مجدداً الأسئلة المحيرة حول الحدود المفروضة للتدخل وإلى أي مدى فكرة السيادة المنظمة يجب تقويضها في القانون الدولي.

وكل هذا أدى إلى مفارقة جوهرية، حيث إنه في الوقت الذي يصعب الوقوف في وجه مبدأ التدخل الإنساني الأخلاقي في الجوهر، يبدو الثناء على النتائج الحقيقية والعملية لهذا التدخل أمراً أكثر صعوبة.

وقوة الحجة الأخلاقية لصالح منع انتهاكات حقوق الإنسان، خصوصاً عندما تجري على نطاق هائل، مفهومة تماماً، لكن تغطية واسعة لكل عمليات التدخل الإنساني وما تبعها من سفك للدماء في كل من ليبيا والعراق وأفغانستان تزيد من عدم الرضا بالنتائج.

والخطر الأعظم بالنسبة لمن يدعو بقوة إلى التدخل يتمثل في أن نتائج التدخل المشكوك بنجاحها في الآونة الأخيرة، قد تعمل في نهاية المطاف على ثني الدول عن التدخل في حالات الفظائع وجرائم الإبادة الجماعية الواضحة والفاضحة.

 

ما العمل

ما العمل إذن؟ الجواب هو أنه إذا كان من الضروري عدم فقدان فكرة التدخل الإنساني مصداقيتها بشكل مطلق، فلا بد من وجود فهم حقيقي وعملي ودقيق لما هو مطلوب، ليس للإطاحة بالأنظمة التي تنتهك حقوق الإنسان فحسب، وإنما لضمان الحريات الأصيلة والديمقراطية والشفافية في فترات ما بعد الصراع.

وهذا يتطلب رفع حدود عتبة التدخل الإنساني أكثر من ذلك بكثير في المبدأ، وفهماً أعمق للاعبين المعنيين والتبعات المحتملة. لأن البديل القاتم، الذي لا يزال حاضراً يتمثل في العودة إلى نوع من الواقعية السياسية لأسلوب هنري كيسنجر غير المبالي بالانتهاكات.

يجب ان يكون التدخل أداة الملاذ الأخير، إن كان سيصبح أداة، وأن يدعم بتعهد بالمشاركة الجدية في مرحلة ما بعد الصراع بصرف النظر عن الكلفة والوقت المستهلك، وكذلك بفهم واضح أن مسؤولية الحماية لا يجب ان تعني فقط منع الفظائع في المقام الأول، وإنما منع الحرب الأهلية في أعقاب الصراع ومسؤولية إعادة البناء. وإلا فإن المبدأ المستحضر لإنهاء الرعب، سوف يصبح معروفاً بالمبدأ الذي ولد كثيراً من الرعب.