هناك حكمة تقليدية في الولايات المتحدة مفادها أن العرب غير قادرين على المحافظة على ديمقراطية ليبرالية صحيحة على النمط الغربي. سوف يستغرق الأمر منهم مئات السنين لاكتساب «ثقافة ديمقراطية»، حسبما تشير هذه الحجة.
وفي غضون ذلك، فإن الأنظمة الاستبدادية الجديدة، سواء الإسلامية أو العسكرية، سوف تحل محل تلك التي تمت الإطاحة بها في العام الماضي، وتقدم لنا جميعاً درساً في «الديمقراطية العربية». وكان دعاة هذا الرأي أول من يعلن أن الربيع العربي قد أصبح شتاءً عربياً.
وعندما فازت الأحزاب الإسلامية في انتخابات حرة ونزيهة في معظمها في تونس ومصر والمغرب خلال الشهور الأخيرة، بادر المعارضون لهذا الرأي بالقول: «قلنا لكم ذلك»، وسرعان ما نددوا بأي شخص قال خلاف ذلك واصفين إياه بأنه ساذج على نحو يائس.
في غياب الخبرة
لكن هذا الرأي المريح والحاذق حول التطورات الدراماتيكية التي اجتاحت العالم العربي في العام الماضي يستند إلى الجهل وليس الخبرة. فمن خلال لقاءات جرت في القاهرة مع شريحة واسعة من الطبقة السياسية المصرية الجديدة، بدءاً من رئيس حزب النور السلفي في أقصى اليمين، إلى الثوار الشبان الساخطين في أقصى اليسار، ومن مرشحي الرئاسة الممثلين إلى جماعة الإخوان المسلمين، ومن أعضاء البرلمان الليبراليين المنتخبين حديثاً إلى الشخصيات النسائية من التيار الإسلامي، تكشف واقعاً مختلفاً تماماً.
فبعد فترة سبات ممتدة، تفاقمت ممارسة الحياة السياسية في القاهرة عاصمة الصحوة العربية. وللمرة الأولى في ستة عقود، يذوق الناس طعم الحرية ويمارسون سياسة ديمقراطية على النمط الغربي. فالقضايا التي يناقشونها الآن بحماسة تتسم بالجوهرية بالنسبة لتشكيل مستقبل الديمقراطية في مصر مثل: ماذا ستكون الصلاحيات المتبقية للعسكر في مصر؟ ما هو أفضل نموذج لتقاسم السلطات بين الرئاسة والبرلمان؟ ما هي البنود التي يتعين إدخالها على الدستور المصري لضمان الحكم الديمقراطي؟
في الوقت نفسه، فإن الأحزاب المنتخبة حديثاً منشغلة بالانخراط في المساومات اللازمة لسياسة التحالف، لأنه لا يوجد حزب واحد حصل على أغلبية في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة (حيث فاز حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين بنحو 47% من الأصوات، وفاز حزب النور السلفي بنسبة 25%، فيما حصلت مجموعة متنوعة من الأحزاب الليبرالية بالمقاعد المتبقية).
فإذا بنا أمام مشهد مذهل: فالسلفيون يحاولون التفاوض على التحالف مع العلمانيين الليبراليين.
أنى لهم أن يبرروا مثل هذه الصفقة البراغماتية؟ عدو عدوي هو صديقي، حسبما شرحها أحدهم. يمكنهما الاتفاق على جدول أعمال سياسي قصير الأمد، يتمثل في مواجهة نفوذ الإخوان المسلمين وإقصاء الجيش بعيداً عن السياسة.
وماذا عن فرض الشريعة الإسلامية؟ أشار زعيم حزب النور السلفي إلى أن حزبه هو راضٍ عن الطبيعة المحافظة للمجتمع المصري، حتى أن حملة فرض أحكام الشريعة غير ضرورية. يمكن أن يكونوا راضين (على الأقل في الوقت الحاضر) بالصيغة الحالية للمادة الثانية من الدستور التي تنص على أن «مبادئ» الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع للدولة.
في هذه الأثناء، ينشغل الإخوان المسلمون بإبرام توافق خاص بهم مع المجلس العسكري ومع الأحزاب الليبرالية الأخرى التي من شأنها تمكين حزب الحرية والعدالة تشكيل ائتلاف حكومي (في الوقت الحاضر، يمكنهم السيطرة على البرلمان ولكن حتى يتم تحديد صلاحياته في الدستور ويقوم الجيش بتسليم السلطة، فهم لا يستطيعون السيطرة على الحكومة). وفي الوقت الذي يسعى السلفيون للحد من سلطة الإخوان المسلمين، فإن هؤلاء منشغلون بكيفية تهدئة المخاوف حيال نواياهم.
وبعد العمل على امتداد 80 عاماً في ظروف سياسية قاسية، تعلمت جماعة الإخوان المسلمين مدى الهشاشة التي يمكن أن تؤول إليها هذه اللحظة. وهذا هو السبب في أن قيادتها باتت أكثر استعداداً لقبول حل وسط مع الجيش من الأطراف الأخرى من اليسار واليمين.
وبالتالي، فإن الأطراف الأخرى تخشى من أن تتخلى عنها جماعة الإخوان المسلمين لصالح العسكر في إطار صفقة ودية يمكن أن تنال من الثورة ومن قدراتهم على استخدام قواعد اللعبة الديمقراطية لتقييد الإخوان المسلمين ومحاسبة العسكر.
وقد دعا المجلس العسكري وجماعة الإخوان المسلمين للاحتفال، من خلال إطلاق بالونات احتفالية وأغانٍ وطنية. الناشطون من الشباب وبعض الأحزاب الليبرالية، على وجه الخصوص من تدربوا على يد الثمانين متظاهراً الذين لقوا مصرعهم على يد الشرطة والجيش في عمليات القمع التي جرت خلال شهري نوفمبر وديسمبر من العام الماضي، يدعون من جانبهم إلى التظاهر ضد الحكم العسكري. وهناك بعض الشباب الثوريين من أقصى اليسار يدعو إلى شن حملة العنف.
حديث عن الشرعية
الطريقة التي جرت من خلالها مظاهرات 25 يناير سوف تكون الوحيدة ضمن الطرق التي تتفاعل في إطارها «سياسة الميدان» و»السياسة الحزبية» في ديمقراطية ديناميكية وليدة حديثاً في مصر. ويشعر جميع الأطراف بأنه يمكنهم المطالبة بشرعية من التفويض الذي حصلوا عليه من الشعب بموجب نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة. وهذا يمكنهم من الوقوف في وجه العسكر في المطالبة بترك الساحة السياسية فوراً والسماح بقيام الديمقراطية المصرية.
فلو أن المجلس العسكري يركز على حماية مصالحه الضيقة فحسب (على سبيل المثال، الإبقاء على مصالحه التجارية، والمطالبة بالحصانة من الملاحقة القضائية على أفعال الماضي، والمطالبة بالمسؤولية عن حماية حدود الدولة فحسب)، إذن يمكن أن يتم التوصل إلى حل وسط معقول. ومع ذلك، فإذا أصر المجلس العسكري على تحديد صلاحيات احتياطية في الدستور وحماية ميزانيته من الرقابة المدنية، حينئذ فإن الثوار يعرفون طريق العودة إلى ميدان التحرير.
وكما يصف أحد النواب المنتخبين حديثاً في البرلمان المصري: «إننا نمثل الشرعية الآن، بينما ليست لدى المجلس العسكري أي شرعية».
