الدرس الرئيسي المستفاد من التظاهرات التي جرت في 4 فبراير الماضي، المناهضة لبوتين والمؤيدة له، هو أن المجتمع المدني والسلطات الروسية يسيران في مسار تصعيدي خطير. فبعد اندلاع احتجاجات غاضبة ردا على تزوير انتخابات مجلس الدوما في 4 ديسمبر الماضي، اختارت السلطات عدم تطبيق الإصلاحات التي تلبي بعضا من مطالب المتظاهرين، بل على النقيض من ذلك، بدا الكرملين ماضيا بشكل جازم كما عهدناه، في محاولة تشويه سمعة حركات الاحتجاج المتجذرة وتهميشها.
كما أثبتت ذلك الاحتجاجات المناهضة لثورة البرتقال في «بوكلونايا غورا» والتي دفعت بها السلطات في اللحظة الأخيرة. وبعد ثلاث مسيرات كبيرة حاشدة في أماكن مختلفة، أصبحت مطالب المحتجين أشد قوة في مواجهة السلطات التي كانت تمنع الناس من الكلام. وقد ركزت المسيرات الأولى على الإصلاحات السياسية، والانتخابات المزورة وإقالة رئيس لجنة الانتخابات المركزية فلاديمير تشوروف، لكن، بحلول 24 ديسمبر الماضي، أعاد المتظاهرون تركيز عدائهم على رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين.
إجراءات
والإجراءات التي اتخذتها السلطات الروسية تعمل على الرد على استراتيجية المعارضة بطريقة معاكسة، فقد صعدت السلطات من خطابها الأيديولوجي وحاولت بنشاط استمالة، أو على أقل تقدير إعادة توجيه، طاقة الاحتجاجات الشعبية في مسار آخر. والمسيرة المؤيدة للحكومة في «بوكلونايا غورا» أخرجت إلى الشارع مشاركين أقل بكثير من المشاركين في المسيرة المناهضة للحكومة في «ياكيمانكا»، لكن أعدادهم مع ذلك كانت كافية لبث الأوهام بوجود دعم قوي لبوتين. وفي الواقع، هذا التزييف للوقائع أحرز نتائج جيدة، حيث زعم الناطق باسم الرئيس ديمتري بسكوف في وقت لاحق بأن بوتين سوف يفوز بالانتخابات الرئاسية في الجولة الأولى من التصويت.
وكإجراء وقائي، قرر الكرملين تجديد ملاحقته القضائية للمنظمات غير الحكومية الأكثر نشاطاً. وقد وجدت «غولوس»، وهي مؤسسة مستقلة لرقابة الانتخابات، نفسها خارج مكاتبها بين عشية وضحاها، بالإضافة إلى ذلك، تخطط وزارة العدل لإجراء مراجعات جديدة لـ «نشاطات غير شرعية» تقوم بها منظمات غير حكومية أخرى.
تبريرات
وتبرر السلطات تلك المطاردات بتهم زائفة تزعم ان الغرب يمول حركة الاحتجاج لإشعال ثورة ملونة في روسيا. وتستشهد بالاجتماع الروتيني الذي عقده قادة الاحتجاج مع نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي ويليم برنز والسفير الأميركي الجديد في روسيا مايكل ماك فول في 17 يناير الماضي. وهذه الحادثة تم تصويرها على شاشات التلفزة الحكومية كدليل على ان القوى الخارجية هي التي تنظم الاحتجاجات وتمولها، بصورة تظهر حالة من جنون الشك والارتياب التي كانت تصيب الاتحاد السوفييتي سابقا في أسوأ سنوات الهوس بالجاسوسية.
لا اتفاق
بالإضافة إلى ذلك، فإن سلسلة المقالات التي نشرها بوتين في صحف روسية رائدة بددت، والى الأبد، أية أوهام قد تكون راودت بعض من شارك في حركات الاحتجاج بأن السلطات مستعدة للوصول إلى اتفاق مع المحتجين. وندرك الآن انه سنتوقع تعزيزا لحكم بوتين الفردي.
ان الطبقة الوسطى المدينية في روسيا تطالب بتمثيل سياسي وإصلاحات سياسية منهجية، في حين يرفض النظام تقديم أية تنازلات، والاحتمال بعيد جدا أن يتخلى المحتجون عن كفاحهم.
البعد عن الواقع
في هذه الأثناء، يبقى بوتين بعيدا كل البعد عن الواقع، كتب يقول أخيرا: «مجتمعنا قد تغير بشكل جذري منذ أوائل القرن الحالي. كثير من الناس اصبح اكثر ثراء وافضل تعليما، وبالتالي اكثر انتقادا للأوضاع. وهناك مطالب جديدة على الحكومة وتحسين أوضاع الطبقة الوسطى أبعد من الهدف الضيق المتعلق بضمان حياة مزدهرة لهم هي نتاج لجهودنا. وهذا بالتحديد ما اردنا تحقيقه».
ومن الواضح ان بوتين يناشد بشكل واسع العمال الفقراء ذوي الياقات الزرقاء والمتقاعدين. وهو يعتقد أن بإمكانه ان يتملق للمحرومين والمواطنين ذوي الأوضاع الاقتصادية الهشة لكسب عواطفهم، بإضافة بضعة مئات الروبلات على معاشات التقاعد ومعاشات العسكريين ورواتب موظفي الدولة. وكلما كان هؤلاء الأشخاص اكثر إخلاصا لبوتين، كان احتمال انضمامهم إلى الطبقات الوسطى المتعلمة في الاحتجاج الشعبي أقل ترجيحا.
مطلب إصلاحي
لا يوجد إلا حل سلمي لهذه المواجهة بين المناهضين للرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمؤيدين له. وبناء على ذلك، يجب ان تعقد السلطات الروسية مفاوضات حقيقية ومخلصة مع المعارضة. لكن عندما تطلق هذه السلطات والصحافيون والمحللون أصدقاء الكرملين صفة «راديكالية» على المعارضة، فإنهم يسعون بوضوح لتشويه سمعة المحتجين ونزع الشرعية عن مطالبهم المشروعة. والمعارضة، في المقابل، جاهزة وعلى استعداد للدخول في مباحثات جوهرية مع الحكومة الروسية، ذلك أنها تدعو إلى الإصلاح وليس الثورة.
وقريبا سيقتنع ملايين الروس بأن زعيم البلاد اغتصب السلطة باللجوء إلى وسائل غير شرعية. وهذه قنبلة موقوتة تهدد الجميع، ومن المهم ان يفاوض الكرملين مع المعارضة قبل ان تنفجر هذه القنبلة في وجهه.
