بعد مرور ما يزيد عن العام من انطلاق الربيع العربي، الذي يرمز إلى صعود سلطة الشعوب، فقد أفسح الأمل المجال لحدوث مسلسل تكميلي قاتم. وسقطت الصحوة الديمقراطية فريسة لجيوسياسية مشوّهة شقّت الربيع العربي إلى قسمين، في ظل محاولات مجموعة من الدول الهروب من التغيير، بينما الجمهوريات العربية تتعرض لدرجات متفاوتة من الضغط.

لقد ابتلي الوعد بعهد جديد من الديمقراطية في كثير من بلدان العالم العربي بالقمع السياسي المستمر. والأسوأ من ذلك أن غيوم الحرب تلوح في الافق. فما بدأ باعتباره احتجاجات على ارتفاع أسعار المواد الغذائية والقادة الفاسدين وانعدام المساءلة الحكومية اتخذ أبعاداً تنذر بالسوء. بدءاً من انتهاكات حقوق الإنسان المتفشية غير المعلن عنها إلى حد كبير في ليبيا ما بعد القذافي إلى سفك الدماء المتزايد في دول استبدادية أخرى بالمنطقة فإن هذه التطورات تجعل المستقبل في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أكثر تقلباً وغير مستقر. فيما تواجه حركات الربيع العربي في المنطقة قمعاً بدعم من قوى إقليمية أخرى ومساندة غربية. في الوقت نفسه يقف ميدان التحرير في القاهرة كنموذج مصغر على قدرة الناس العاديين على الانتفاض ضد الطغيان.

إلا أنه بعد مرور ما يزيد قليلاً عن عام واحد، يبدو مستقبل دول أخرى أبعد ما يكون عن الاستقرار. و مما يؤدي إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار في المنطقة هو تصاعد المواجهة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة وقوى أخرى إقليمية، حيث ينخرط كلا الجانبين حالياً في حرب نفسية. فالتحذير من جانب وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا بهجوم إسرائيلي يلوح في الأفق ضد قوى إقليمية في المنطقة، وتهديد طهران بإغلاق أهم طريق لتصدير النفط في العالم، وهو مضيق هرمز، يعد جزءاً من حرب الأعصاب بين الجانبين.

إن خطر إمكانية تصعيد هذه التهديدات تأكد بإعلان الولايات المتحدة تحركاً غير مباشر ضد إيران، والذي تمثل في فرض حظر على تصدير النفط إليها.

وبالنظر إلى أن صادرات الطاقة تشكّل 80% من عائدات النقد الأجنبي لبعض الدول في المنطقة، فإن حظر النفط وتجميد أصول مالية من جانب الولايات المتحدة (والاتحاد الأوروبي) يزيدان من مخاطر وقوع مواجهات عسكرية، وهو التطور نفسه المستهدف أن تتجنبه هذه العقوبات.

يشهد التاريخ على الصلة بين فرض الحظر على النفط والعمليات العسكرية. فعلى الرغم من أن الهجوم على بيرل هاربور في عام 1941 قد باغت الولايات المتحدة على حين غرة، فإن هذا الهجوم كان إلى حد ما بسبب حظر تصدير النفط الأميركي البريطاني الهولندي ضد اليابان، كجزء من ضغط اقتصادي أكبر بدأ في عام 1939.

 

التيارات الأربعة

وهناك أربعة اتجاهات أصبحت أكثر وضوحاً في العالم العربي وهي:

أولا: الطريقة التي تعيد بها حركات الربيع العربي فتح خطوط الصدع على طول الانقسامات التقليدية الطائفية ةالقبيلة، وإثارة اختمار داخلي جديد.

بل إن الأنشطة السياسية بين القبائل تهدد مستقبل ما بعد القذافي في ليبيا، وتزداد المعركة الطائفية تصعيداً في دول أخرى بالمنطقة، حيث تدّعي المعارضة المسلحة أنها تمثل الأغلبية وتمارس اللعبة بذكاء من خلال العزف على وتر مخاوف الأقليات. وبالمثل، تمارس أنظمة أخرى اللعبة نفسها سعياً لتبرير القمع على نطاق واسع، من خلال إثارة المخاوف بين الفرق الطائفية من هيمنة قوى أخرى إقليمية.

- الاتجاه الثاني كشف عن اتجاه للتشدد و عزز فكرة هيمنة التيار الديني، بما في ذلك الدول التي شهدت تغيير نظام الحكم.

فقد أفسح المجال أمام فرص جديدة بالنسبة للحركات الإسلامية بممارسة نفوذها وطرحت نفسها على ساحة الوسطية، كما هي الحال في المغرب وليبيا ومصر واليمن والأردن.

فقد بات نفوذ الاسلاميين الجدد بارزاً في تونس، حيت حظي بالإشادة كنموذج للثورة. و في مصر، تعمل جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت قد تعاونت في البداية مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بعد ثورة عام 1952، مجدداً على توطيد علاقات وثيقة مع المؤسسة العسكرية التي لا تزال تمسك بمقاليد السلطة في البلاد، مما يثير مخاوف بوجود صلة عسكرية بالتيار الديني على نمط باكستان. من ناحية أخرى، تسعى دول أخرى بالمنطقة إلى إقامة علاقات وطيدة مع التيار الديني في دول الربيع العربي، وهو ما برز بشكل واضح من خلال تقديم الدعم المادي لمنظماته لكي تظهر كداعمة للقضايا الإسلامية.

 

دور تركيا

بعد أن فشلت تركيا في جهودها الرامية إلى الإنضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بدأت تحول اهتمامها إلى العالم العربي، و تسعى لتوطيد دور لنفسها كقوة مهيمنة في المنطقة. ومن أجل المساعدة في اصلاح العلاقات مع الدول العربية، التي طالما استبدت بها الشكوك من العلاقة الوثيقة بين أنقرة وإسرائيل المتجسدة في اتفاقية التعاون في التدريب العسكري عام 1996 و اتفاق غير مكتمل لتصدير المياه التركية، فقد عمدت تركيا إلى الانقلاب على حليفتها اسرائيل.

واليوم يلقي التنافس الإقليمي على بسط النفوذ الجيوسياسي بين تركيا وقوى إقليمية أخرى بظلاله على الربيع العربي على المدى الطويل. فقد ازدادت هذه الغيوم قتامة من تدخلات من جانب دول أخرى تسعى إلى تكوين بدائل إسلامية متشددة في بعض الدول العربية الأخرى. فعلى سبيل المثال، لعبت هذه الدول دوراً هاماً خلال العام الماضي في إسقاط الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي ومساعدة حركات معارضة أخرى ودعم زعيم الحزب الإسلامي التونسي راشد الغنوشي، و الدفع باتجاه مغادرة الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، و بدلاً من تقديمه للمحاكمة بتهمة قتل مئات المتظاهرين في اليمن، فقد مُنح، أخيراً، إذناً بدخول الولايات المتحدة.

أما موسكو فهي تواصل تسليح وحماية أنظمة إقليمية، في الوقت الذي أعلنت واشنطن، أخيراُ، عن استئناف مساعداتها العسكرية إلى دول أخرى بالمنطقة.

 

حقيقة مرة

الحقيقة المرة هي أن مواقف جيوسياسية من هذا القبيل قد انقضت بفعالية على الربيع العربي. و اليوم، فإن الدول العربية بالشكل الرئاسي الحكومي تخوض غمار التغيرات العميقة الجارية، والتي يتم السعي من جانب قوى أخرى إلى فرض نفوذها من خلال ما لديها من فوائض في الثروات.

إن تجربة نصف القرن الماضي تبين أنه كلما زادت فوائض هذه الدول، عمدت إلى تمويل الحركات المتشددة في المنطقة، مما يساهم في تنامي الاضطراب الدولي. وفي الواقع، فكلما زادت ثرواتها، ارتفع ثمن الحرية في المنطقة.

وفي ضوء ذلك، فإن محاولة الولايات المتحدة لإضفاء فعالية دولية على جهودها لفرض عقوبات جديدة تشكل ضربة مزدوجة لشريكتيها، وهما اليابان والهند. فسوف يؤدي ذلك إلى تدمير استراتيجية التنوع في مجال الطاقة لديهما عن طريق جعلهما يضعان كل البيض في أنظمة معينة، تلك التي تقوم بتمويل الجماعات المتشددة.

 

مستقبل التطلعات العربية

وفي وقت كانت أميركا تعجل من فك ارتباطها في أفغانستان، مع قليل من الاعتبار للمصالح الهندية، فإنها بذلك سوف تدمر علاقات الهند مع قوى إقليمية غاية في الأهمية بالنسبة لاستراتيجيتها في أفغانستان. أما على النطاق الأوسع، فإن تطلعات العرب الديمقراطية سوف تظل على الأرجح بعيدة المنال، ما لم ترتد الحالة الجيوسياسية وتتركها القوى الأخرى في المنطقة وشأنها.

 

 الربيع العربي يكشف أعمق المشكلات وأكثرها تجذراً

 

في السابع والعشرين من أبريل عام 1994، أجريت أول انتخابات ديمقراطية في جنوب افريقيا، و أسفرت نتائجها عن فوز المعتقل السابق من نظام الفصل العنصري نيلسون مانديلا ليصبح أول رئيس لجنوب افريقيا في انتخابات ضمت أعراقاً متعددة. أما البلد الثاني الأكثر شهرة باتهامه بالفصل العنصري فهو إسرائيل.

لقد كان أكبر المنتقدين لنظام الفصل العنصري الذي تمارسه هاتان الدولتان هي الدول العربية. و استخدمه العرب ضد الاسرائيليين في شن حروب بوسائل الاعلام من أجل المزيد من التعاطف العالمي مع الفلسطينيين. ومع ذلك، فقد استخدم الإعلام العربي مسألة التمييز العنصري للتغطية على التحيزات الخفية في العالم العربي.

لكننا في العالم العربي لا نضع ذلك في إطار منهجي أو نصيغ مشروع قانون واضح يؤيد التمييز العنصري. بل تمارسه بعض الأنظمة العربية دون أن يكون في إطار مكتوب، لأنه حينئذ سوف يكون من الأسهل إنكار وجود هذا التحيز.

خلال القرن الماضي، انقسم العرب إلى معسكرين، هما الرجعيون و التقدميون. وفشلت كل الجهود لتوحيد العرب بهذه الطريقة. فما هو السبب لعدم توحد العرب؟ ولماذا نرى الاضطرابات المستمرة وانعدام الثقة بين العرب؟ ولماذا ينتشر الربيع العربي من بلد عربي إلى آخر؟

إن الدول العربية هي أبعد ما يكون عن التجانس. فهناك اختلافات كثيرة وعميقة تقليدياً. تقبلت الدول العربية وجود أديان وأفكار واتجاهات مختلفة فيما بينها، وكانت أبرز الأمثلة على ذلك لبنان ومصر والعراق والمغرب وتونس والآن، يعاني العالم العربي من أسوأ حالات التحيّز ضد كل من يفكر بطريقة مختلفة عنه. ففي ليبيا، لم تكن بني غازي في شرق البلاد على علاقة طيبة مع طرابلس في الغرب.

ولدى العراق طوائف مختلفة في الوسط وفي الجنوب وفي الشمال، فضلاً عن الأقليات العرقية الأخرى. وسقط لبنان، الذي كان يطلق عليه يوماً سويسرا الشرق الأوسط، ضحية للانقسامات الطائفية.

و قد سنحت الفرص لبلدان عربية كثيرة لاستيعاب شعوبها داخل الوعاء الاجتماعي نفسه. ومع ذلك، فقد كانت فجوة انعدام الثقة والانقسام الاجتماعي هي التي جعلت كل مجموعة حاكمة تثق في مواطنيها أو قبيلتها فحسب. وأصبح كل فصيل حاكم يستخدم القضية الأمنية لإساءة معاملة غيره من قطاعات المجتمع.

ظواهر

عندما يحدث مكروه في بعض الدول العربية فإن هناك من يبادر بتوجيه الاتهام إلى أيادٍ خارجية، ووصفها بأنها وراء القيام بإثارة حالة عدم الاستقرار ولا توجّه اللوم إلى ظلم النظام. وخلال هذه الفترات من القهر، تتوجه خيرة العقول عادة صوب الغرب، بينما لا يستطيع الذين يبقون المشاركة في تنمية البلاد. ويؤثرون عزل أنفسهم ويكتمون همومهم.

وعندما يصبح الوضع غير محتمل ويضيع العدل، حينئذ نرى الجماهير تنزل إلى الشوارع. وعند هذه المرحلة، يصبح التمييز الخفي مرئياً. لنكن صريحين، بماذا نصف غارات جوية يتم شنها ضد مواطنين مدنيين في إحدى الدول العربية؟ إذا لم يكن هذا تمييزا عنصريا، إذن فما هو التمييز العنصري؟ وعندما نرى دبابات تقصف أحياء بأكملها، إذن فهذا هو التمييز العنصري في أبشع صوره. لم يكن الربيع العربي مفاجأة. فلم يكن الأمر سوى مسألة وقت فحسب.