في الوقت الذي ظهرت فيه المطالبة بـ«الديمقراطية» كقاسم مشترك بين ثورات الربيع العربي، والحركات الاحتجاجية والانتفاضات بمختلف أرجاء العالم، فضلاً على التحرّر من قيود الديكتاتوريات، والأنظمة الاستبدادية، وكافة أشكال الظلم بمختلف المؤسسات، وكافة الأرجاء، تطفو للسطح مشكلات متجددة بشأن «الديمقراطية» نفسها..

ففي الوقت الذي يؤكد فيه فريق من المراقبين والمحللين بأن الديمقراطية لم تعد هي «العصا السحرية» التي تخرج الشعوب من وحول القمع والطغيان إلى نيران الحرية والرخاء، وخاصة أن الديمقراطية ـ كما وصفها الزعيم المصري الراحل محمد أنور السادات في واحدة من كلماته ـ لها أنياب، وأنياب شرسة.

ويرى فريق آخر أن بعض الشعوب العربية غير مهيأة أو غير معدة لممارسة الديمقراطية الحقة، وخاصة أن بعضها قد قبع في ظلام الديكتاتوريات لفترة طويلة «مثل مصر»، ويحتاج إلى فترة أطول لتفهم سبل الديمقراطية التي تُمارس في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الديمقراطية الأخرى.

فلسطين.. إجماع على عدم ديمومة الظلم وضرورة الإصلاح

دعا الدكتور واصل أبو يوسف عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى ضرورة تمسك الشعوب بالديمقراطية للتخلص من ظلم وظلمة الديكتاتورية التي دفع ويدفع المواطن العربي حياته ثمنا في سبيل الانعتاق منها .وقال لا أحد يعتقد انه بدون ديمقراطية وحرية الفرد سيكون هناك حياة منظمة ومستقرة للشعوب أو حل للخلافات والصراعات التي تنشأ في المجتمعات العربية .

و النظام الديكتاتوري وحكم الفرد أمران ظالمان للشعوب ولابد وأن يواجها من قبل الشعب بالثورة ، وهذا ما حدث ويحدث في عدد من الدول العربية التي سادها النظام الشمولي والاستبدادي وغاب عنها الخيار الديمقراطي الذي يحقق للمواطن تطلعاته وآماله المستقبلية في العيش بحياة كريمة مستقرة آمنة.

وأشار أبو يوسف إلى أن الديمقراطية هي أساس تحقيق الأمن والاستقرار، ومن الأخطاء التي تواجه الديمقراطية هو أن يتم الحديث عنها بشكلية وسطحية بينما على ارض الواقع لا تطبق ويسود القمع والقتل بحق من يطالب بها وهكذا يصبح النظام الديمقراطي شكليا فقط فالحديث يكون عن الحريات الفردية والجماعية بينما يمارس القمع وتكميم الأفواه، ودعا أبو يوسف إلى ضرورة الفصل بين السلطات(التشريعية ، التنفيذية ، القضائية) والى حرية وسائل الإعلام و تعزيز الخيار الديمقراطي من خلال إجراء الانتخابات بشكل شفاف ومنتظم لينعم الشعب بالحرية المطلقة في تحديد خياراته.

من جهته يرى الكاتب والمحلل السياسي الدكتور سميح شبيب بأن الأنظمة الشمولية والعسكرية في العالم العربي اخترعت شيئا اسمه "الديمقراطية" وفقا لرؤيتها من خلال إجراء انتخابات شكلية تعزز مكانتها ولا تعكس النزاهة والشفافية، ولا التعددية الفكرية والسياسية التي يطمح لها الشعب ، فكل شيء تحت سيطرة الحاكم الذي يبقى في سدة الحكم لعقود طويلة، وأضاف أن الأنظمة العربية يتحكم فيها أفراد وأنظمة حاكمة تهدف للبقاء إلى ما لا نهاية.

واشار الى أن لبنان كانت الدولة العربية البارزة وهي تعيش مرحلة من الديمقراطية بسبب الظروف الطائفية التي تسود فيها بينما في بقية البلدان العربية فالحال متشابه والديمقراطية محدودة جدا .

وأكد أن المواطن العربي كان يسجن ويزج في السجون لفترات طويلة إذا عبر عن رأيه وتحدث "ببنت شفه" وكانت تمنع الصحف من النشر أو يتم إيقاف صدورها . ولذلك ما نشهده اليوم من "ربيع عربي " هو نتيجة للظلم والاضطهاد الواقع على الشعوب التي تحركت أخيرا وذاتيا لإزالة الظلم عن نفسها، متوقعا أن تنجح الشعوب وان كان متأخرا لبعض الوقت في تحقيق الاستقرار والديمقراطية المنشودة التي طالما ناضلت من أجلها بأدوات محدودة.

سوريا.. النظام حجرة عثرة أمام تطلعات الشعب للديمقراطية

مع انطلاقة الثورة الشعبية ضد نظام الأسد، تعيش سوريا الآن مرحلة فاصلة من تاريخها الحديث، فهي تمضي قدماً نحو الانتقال إلى حكم ديمقراطي تراعى فيه حقوق الإنسان، وتحترم إرادة الشعب، وما إصرار الثوار على قطع الوشائج مع مخلفات حكم الديكتاتورية التي أفرزها حزب البعث منذ ستينات القرن الماضي .إلا تأكيد السعي نحو مسار حياة معاصرة، تسودها الديمقراطية، ولو كلف ذلك فيضا من الدماء والتضحيات، كما يجري يومياً الآن.

وينعت الخبراء والمحللون السياسيون نظام الحكم في سوريا بأنه من بين أسوأ الديكتاتوريات التي خرجت من رحم العالم المعاصر، الديكتاتورية التي تسللت إلى سدة الحكم بين ليلة وضحاها عبر انقلاب عسكري قاده الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، ولم تمر سنوات قليلة حتى أحكم النظام قبضته على مقاليد الحكم بفضل استفراده بالمؤسسات العسكرية والأمنية، وتسخيرها كطوق صلب لحماية السلطة.

ورويداً رويداً تسللت عناصر الطائفة العلوية لتحتل المراكز الحساسة في الدولة، وحبكت المخططات البوليسية الأقرب إلى سلوك عصابات المافيا لتصفية أصوات المعارضة من داخل جسم المؤسسة العسكرية. ورغم أن السلطة السورية تحتضن في باطنها مكونات متنوعة من المجتمع السوري،

وقد تحول الشعب إلى كيان وهمي تائه في كنف الديكتاتورية، وفقد إرادته السياسية بالكامل، وعانى الأمرّين جراء ممارسات الأجهزة المخابراتية والعسكرية.

ومع انطلاقة الثورة السورية في 15 مارس من العام الماضي عاد بريق الأمل من جديد للشعب، كي يستعيد ما سلب منه على مدار أربعين عاماً، ووصفت الثورة السورية مقارنة مع الثورات العربية الأخرى بأنها أكثر تصميماً لتحقيق تطلعاتها في الحرية والديمقراطية، بيد أن النظام واجه تلك التطلعات المشروعة نحو الديمقراطية بكل الوسائل الأمنية والعسكرية منذ اليوم الأول، فلم يتوان عن استخدام كل الأسلحة الثقيلة والخفيفة، وجنّد مجموعة من الميليشيات المدنية «الشبيحة»، لضرب التظاهرات المناوئة لنظام الحكم بيد من حديد.

وخلفت الحملة العسكرية، بحسب الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة، مقتل أكثر من 18 الف شخص، وارتفع عدد المنكوبين ليصل إلى 1.5 مليون شخص، فيما نزح حوالي مليون شخص . ودمرت البنية التحتية بالكامل في معظم المناطق الثائرة.

مفكر سوري: ترسيخ مبدأ الأبدية في الحكم يدمر البلاد

تشير أرقام رصدتها لجان حقوق انسان إقليمية ودولية إلى أن النظام السوري يعتبر من بين أكثر الأنظمة في المنطقة العربية ظلماً وعدواناً على شعبه، والمجازر التي ارتكبها حديثاً في الحولة وكرم الزيتون وجورة الشياح وخان شيخون ودرعا وريف دمشق وزملكا تعكس بوضوح سلوكه الحقيقي، وتؤكد شعاره «إما الأسد أو تدمير البلد»، مع ترسيخ مبدأ سياسة الأرض المحروقة.

المفكر السوري طيب تيزيني يصف النظام الأمني والاستبدادي في سوريا بأنه يعيش على مبدأ «الأبدية في الحكم أو الموت وتدمير البلاد»، كما أن البنية الثقافية للنظام تأسست عبر الممارسة الواقعية والعملية، من خلال استئثاره بالثروة والسلطة والإعلام والمرجعية. معبراً أن القصد من احتكار المرجعية يختزل في ذلك الهراء الذي يقول إن حزب البعث هو الذي يقود الدولة والمجتمع، كما كان الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي سابقاً قائداً للدولة والمجتمع، وتفكك الاتحاد السوفييتي بسبب تلك الأمور.

ويقول تيزيني إن الثورات في السابق كانت تنطلق على أسس طبقية مستندة على شريحة العمال والفلاحين والبرجوازيين، ونتيجة لقيام النظام المستبد في سوريا بتفكيك بنية الطبقات الاجتماعية والفئوية والأحزاب الكلاسيكية، انتقلت الثورة إلى شريحة الشباب، الذين ينحدرون من طبقات اجتماعية متنوعة، لأن النظام سلب معظم الشرائح كرامتها وحريتها وحقوقها المادية.

ويضيف قائلا إن النظام السوري يعيق نشوء الديمقراطية، لأنه يقتات على الفساد وبشكل شامل، حيث دمّر معظم خُطط، بل ربما كل قواعد التنمية الوطنية في الحقول الاقتصادية والسياسية والعلمية والثقافية، وجسد هيمنة أدوات القمع والاستبداد كوسائل لحكم البلد، ومن ثم في غياب الديمقراطية والمساءلة بدأت خطوات جادة وبصورة مكثفة في نهب المال العام.

ويرفض النظام حتى الآن الإصلاح الجاد الذي طالبه به المجتمع الدولي، بعيداعن الترقيع، أو الرحيل عن سدة الحكم. وفي ظل تلك المعطيات، فمن نافلة القول، ان هناك صعوبة بالغة في امكانية الانتقال إلى تأسيس نظام ديمقراطي في سوريا ونظام الأسد لايزال جاثما على صدور السوريين، ومتمترساً خلف ترسانته العسكرية وأجهزته الأمنية، ضاربا عرض الحائط بكل المناشدات الإقليمية والدولية بتحسين سلوكه كنظام قمعي.

وما نتج مؤخراً عن مؤتمر القاهرة الذي شاركت فيه كافة فصائل المعارضة للبحث في تداعيات الأزمة السورية وايجاد مخرج يحقن الدماء ويعيد الأمن والاستقرار لربوع الوطن، برهن بما لا يقبل الشك بأن أي خطوة نحو طريق الديمقراطية لا بد أن تأتي بعد رحيل نظام بشار الأسد بكل مرتكزاته ورموزه عن الحكم. لأن الدائرة التي تحمي الاستبداد وتمارس القتل والاعتقال وتتنهك حرمات الناس وتنهب أموال الشعب، وتسحق المعارضين، وتمنع حرية التعبير والتظاهر، هي المستفيد الأول من النظام الحاكم في دمشق، وفي مقدمتها عائلة الأسد. ومن أجل ذلك شددت المعارضة على ضرورة رحيل النظام وتفكيك كافة أجهزته الأمنية والسياسية. دمشق ــ «البيان»

مفكر تونسي: ثورة الياسمين لم تحظ بإجماع شعبي واسع

يعتقد تونسيون أن ما حدث في بلادهم يوم 14 يناير 2011 كان إنقلابا سياسيا تم الاعداد له سلفا من قبل قوى داخلية وخارجية، ويخشى عدد كبير من المراقبين أن يؤدي وصول الاسلاميين الى الحكم الى انقلاب على الدولة التونسية الحديثة وإرثها الحضاري والاصلاحي ، خصوصا مع الانتقاد الواسع الذي يتجه به الإسلاميون بكافة تياراتهم المتطرفة والمعتدلة الى 50 عاماً هو عمر الدولة الوطنية المستقلة وإلى التوجهات الليبيرالية والعلمانية التي كان يؤمن بها الرئيس الاسبق وزعيم حركة الاستقلال الحبيب بورقيبة .

ولم يعد مستغربا أن تستمع الى سائق تاكسي وهو يحدثك عن خيبة أمله مما يجري في بلاده: يقال ان بن علي كان ديكتاتوريا، هذا أمر يهم الساسة المتصارعين على السلطة ، ويقال ان المقربين منه كانوا لصوصا ، لكن ذلك لم يمسسنا نحن البسطاء ، ما يهمني أنني كنت مطمئنا في عملي ، وكانت الحياة أيسر مما أضحت عليه اليوم ، الأسعار كانت أفضل ، البطالة كانت أقل ، والأمن أوفر .

وعن الشعوب وما تعانيه من ظلم وظلام الدكتاتورية، وما تعيشه من أخطاء وخطايا الديمقراطية، يرى الأمين العام المساعد لمنظمة الليبيرالية الدولية والمحلل السياسي التونسي المنذر ثابت أن الشعوب العربية بقيت رهينة الاستبداد بشكليه استبداد الفرد وما يمكن وصفه بالديكتاتورية، واستبداد النخب وهو ما يوضع تحت مسمّى الديمقراطية في نسختها العربية .

وفي كلتا الحالتين، تبقى الشعوب مغيبة فعليا عن مدار القرار، وتحديد مصيرها ما دامت الوصاية مفروضة بآليات قد تختلف من حيث القدرة على الإيهام، لكنها تفضي في محصلتها إلى وصاية تقدم الشعوب على أنها ذلك القاصر العاجز عن تحديد مصيره بذاته.

وفي كلتا الحالتين لست من الذين يكتفون بالنظر الى مفردات الربيع العربي من الداخل بقدر ما أشدّد على معطى الهزيمة الحضارية التي يعيشها العرب منذ انتقال الخلافة الى الاستانة والتي تضعهم في موقع الفاعل والمفعول به ليكون المحدد الخارجي السائد والموجّه لمصير هذه المنطقة التي تعيش، كما أكد ذلك محمد حسنين هيكل "سايكس بيكو جديدة".

واللافت في الوضع التونسي أن ما اصطلح على تسميته بثورة الياسمين لم تحظ بحالة إجماع شعبي، حيث لم يصوّت للمجلس الوطني التأسيسي إلا اقل من نصف الجسد الانتخابي ، وحيث تجدّد منطق الاقصاء والاستثناء والاحتكار في المجالين السياسي والاعلامي دون أن تسجل المطالب الاجتماعي التي دفعت بالحراك الشبابي أواخر 2010 ومطلع 2011 الى التمرد على سلطة نظام بن علي، وبقيت المعادلة في الوعي الجمعي التونسي على الشاكلة التالية: هل يمكن لجائع أن يكون حرّا؟

وهو ما يفسّر انسحاب أوسع قطاعات من الجماهير التونسية من مجال العمل السياسي والسجالات الخاصة بنخب سياسية تشنّ حرب مواقع لاحتلال مراكز النفوذ ووضع اليد على مفاصل الدولة، فبعد ذوبان الكثرة الحزبية أصبحت الدولة حكرا على الأحزاب الغنية المدعومة والممولة من الداخل والخارج، وهو ما يفسّر عودة اليأس الى صفوف الشباب. 

اليمن.. التسلط امتهن حياة الإنسان وكرامته

تيه ظلمة وظلم الديكتاتوريات والاستبداد ربما يتجلى في أوضح صوره في استمرار الحكام المتسلطين بإدارة شؤون بلدانهم بطريقة نمطية موحدة وثابتة لا تخرج عن تصورهم لطبيعة السلطة وممارسة الحكم ، ومؤدى ذلك التصور كما حلله وسبر أغواره الكثير من الباحثين أن الديكتاتور المستبد بمجرد وصوله إلى سدة الحكم يراها استحقاقاً خاصاً به دون غيره ومجالا لتنفيذ رغباته ونزواته الأمر الذي يحول السياسات حسب ذلك التصور الاستبدادي من خطط وبرامج ومؤسسات واستراتيجيات وعقلنة وترشيد كما يقول عالم الاجتماع جمس فيبر تهم عموم ولذلك فإن تيه الديكتاتور وفقاً لفقهاء القانون الدستوري ينشأ من النشوة التي تبعثها السلطة في رأس الحاكم المستبد.

وجل فقهاء القانون الدستوري باعتباره القانون المتعلق بتقنين ممارسة الحاكم لسلطاته وتقيدها بتوزيعها إلى تنفيذية ، تشريعية، قضائية درجوا على أن يستهلوا كتبهم بالعبارة المأثورة " إن للسلطة نشوة تبعث في الرؤوس فتلعب بها ".

وهو ما يعني أن المستبد كلما وجد أن اتباعه يكونون خاضعين منقادين له ازداد إمعانه في إذلال شعبه وإخضاعه إلى أن يفرط في تقدير ذاته ويتعالى بها عن عموم الناس فتزيد تدخلاته وتتوسع مجالات سلطاته حتى يصبح هو محور الدولة أو الدولة، كما كان يقول لويس الرابع عشر " أنا الدولة والدولة أنا "، فالوظيفة العامة والإدارة العامة وكل ماله علاقة بعموم الشعب تطاله تدخلات ذلك الحاكم المستبد.

وكلما زادت تدخلاته وغابت محاسبته أوغل في إلحاق كل شيء بشخصه وأضحى نشاطه موجهاً لاسترضاء حاشيته وبطانته أو عشيرته وأقاربه وفي الآونة الأخيرة حزبه وذلك من أجل ضمان ولائهم واستمرار خضوعهم، والأمثلة الدالة على ذلك كثيرة في المنطقة العربية كنماذج على التيه الاستبدادي بالركون إلى السيطرة على كل شيء.

يرى الباحث اليمني في الشؤون السياسية سقاف عمر السقاف الاستبداد ثقافة تجذرت وتأصلت في المجتمعات العربية والإسلامية منذ قرون طويلة خلت، وذلك يعود إلى عوامل كثيرة متداخلة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، لا مجال لسردها هنا، والحاكم العربي المتسلط والظالم قديماً، المستبد والديكتاتور حديثاً؛ ما هما إلا جزء من هذه الثقافة ونتاجاً لها. غير أن الاستبداد في ظل الديكتاتوريات المعاصرة كان أبشع، لأنه امتهن حياة الإنسان العربي وكرامته.

وفي ذات الوقت تحول الحاكم العربي في ظله إلى اله صغير يجب التسبيح بحمده ليل نهار. والواقع أن سيطرة بعض الأنظمة على السلطة والمال والجيش والإعلام وكل مقدرات الدولة، وكذا حصولهم على الدعم والتأييد الخارجي، في مقابل شعوب قاصرة الوعي ومنهكة اقتصادياً، وفي ظل معارضات سياسية ضعيفة ومهادنة، أفضت إلى السيطرة على كل شيء.

ولكن مع مرور الوقت وتغول وتوحش مثلث الظلم والفساد والاستبداد، ومع زحف المد الديمقراطي للمنطقة بصور وأشكال شتى، خرج المواطنون العرب عن صمتهم وثاروا ضد جلاديهم واستطاعوا أن يهزوا ويسقطوا عروش أعتى الديكتاتوريات في المنطقة وربما العالم.

وبالمقابل تطرح الديمقراطية خياراً للخروج من واقع الاستبداد، وتعد أقل النظم السياسية سوءا كونها النظام القادر على تمثيل مصالح فئات اجتماعية واسعة ونسبية، لأنه إذا كان يعطي الأولى السلطة باعتبارها صاحبة الأغلبية فإنه يضمن للأقلية إيصال صوتها عبر مختلف المنابر.

ومع أن البلدان العربية التي اجتاحتها موجة الربيع العربي باتت على مشارف عهد ديمقراطي جديد إلا أنها لاتزال بعيدة عن بلوغها، فالتجربة بحاجة للمزيد من الوقت لاسيما وأن معظم ثوراتنا أنجزت التغيير في رأس النظم فقط، ولم تحدث التغيير الحقيقي في البناء والهياكل المجتمعية والمؤسسية، ونحن فلا نزال في البدايات، والعجلة تدور ببطء، ولكنني متفائل بالرغم من كل التحديات، فالقادم سيكون أفضل والمستقبل سيكون مشرقاً بإذن الله.

تونس.. انقسام الشارع بين الحنين إلى الماضي والأمل في المستقبل

بدأ أغلب التونسيين يعيدون حساباتهم في فهم طبيعة الأحداث في بلادهم بعد اقتلاع نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ، فما حدث بعد 14 يناير 2011 في بلدان عربية أخرى بدأ يثير أسئلة عما إذا كانت تونس مجرّد حقل تجارب «ثورية » كانت المستهدفة منه أنظمة بعينها، كونها تتمتع بالدعم الشعبي والشرعية الثورية.

وبروز ظواهر جديدة في المجتمع تهدد السلم الاجتماعي والخصوصيات الحضارية والثقافية والمذهبية والحركة الاصلاحية والحداثية التي عرفت بها تونس، جعل نسبة من التونسيين تخشى على مستقبلها ,في ظل عجز الحكام الجدد على حماية صورة البلاد بتجانسها الثقافي والاجتماعي وانفتاحها الحضاري.

واذا كان التونسيون عرفوا الديكتاتورية ومرارة أيامها وعقودها ، فإنهم اليوم يعيشون واقعا صعبا من ديمقراطية، جزّأت المجتمع بين أنصار دولة دينية ودولة مدنية، وبين المدافعين عن الخصوصية الحضارية، والساعين الى تذويبها في إطار إقليمي ودولي ، وبين المنفتحين على العصر وعلى العالم وخاصة الغرب، وبين الساعين إلى القطيعة التامة مع إرث الدولة الحديثة، واتهامها بالخروج عن قيم ومبادئ الهوية العربية الاسلامية.

الشاعر منصف الوهايبي عبر عن خشيته من انتكاسة الثورة التي يحاول الكثيرون الآن شحنها بالشعارات الإيديولوجية وكأنهم يريدون سد ثغرة فيها. فما حدث في تونس شيء عظيم ورائع، ولكن للأسف نخشى عليه من الانتكاسة، فالتونسي لم يعتد على حرية التعبير وعلى هذه الطفرة وعلى هذا الفيض من وسائل الإعلام، ثم هناك نقص آخر وهو أن كثيرا من الشباب الذين قاموا بالثورة.

وهم شباب مهمش وأقول ذلك بصدق، لا يمتلكون ثقافة سياسية واعية، ولا يعرفون كيف يميزون بين حزب وآخر؛ حزب يحاول أن يرضي الأغلبية بنوع من الإيهام والوعد بجنة موهومة لا وجود لها، مثل وعود تشغيل كل التونسيين العاطلين عن العمل أكثر من100 ألف عاطل, ومنح تعويضات مادية لمن لا يجد عملا! وما إلى ذلك من وعود وإيهامات. أخشى أن لا يكون البعض على وعي بهذه الاطروحات التي يمكن أن تسيء للديمقراطية وهي تخطو خطواتها الأولى.

ويخشى البعض من هيمنة الإسلاميين, وهم رقم صعب. وبين قياداتهم هناك من يمكن التحاور معه، لكن المشكلة تكمن أساسا في قاعدتهم. غير أن التونسي حذر ووسطي بطبيعته، وليس عنيفا. ولا يمكن أن يرهن مصيره باستبداد من نوع آخر.

والشعب التونسي جرب الاستبداد بما فيه الكفاية؛ مع الحبيبب بورقيبة رغم أنه منح التونسيين فرصة التعليم ونشر قيما أخرى غيره ، ثم بن علي وهو نتاج بورقيبي . وبعد خمسين سنة من الاستبداد لا يمكن للشعب أن يرهن مصيره لأي حزب أيا كان.

غياب الحكمة

و قال المحامي البشير الصيد، رئيس حركة "المرابطون" إن تحالفا بين قوى أجنبية معادية للثورة وجيوب ردة بالداخل ساهم في إجهاض الحراك الشعبي في تونس قبل أن يتحول إلى ثورة.

وانتقد ما وصفه بغياب الحكمة والقدرة على إدارة شؤون البلاد لدى الأطراف السياسية الحاكمة، وسياسة الحكومة الحالية ليست سوى ردود أفعال على الانتقادات الموجهة إليها من الداخل والخارج. وعاب على الحكومة الحالية ما أسماه الانفراد بالقرار والرأي في كل المجالات وعدم استشارة أيّ طرف .

وكان عليها مصارحة الشعب بحقيقة إمكانيات البلاد وعدم إغراقه في الوعود، والتصرف وكأنها حكومة دائمة في حين أن مهامها لا تتعدى صياغة دستور للبلاد وتصريف الأعمال. ووصف السياسة الخارجية للبلاد بأنها حمقاء ومرتجلة ومتسرعة ومرتهنة لقوى خارجية، مع رفض حركته لما وصفه بتدخل قوى أجنبية في القرار السيادي التونسي.

ولم تصل تونس في تاريخها الى ما وصلت اليه حاليا من حرب اهلية لفظية تعتمد هتك أعراض المنافسين السياسيين والسباب والشتيمة واعتماد الاكاذيب و الخديعة في تشويه صورة الآخر المختلف فكريا وسياسيا عبر مواقع التواصل الاجتماعي ، حيث تقوم أطراف سياسية بتأجير مئات من الشبان في خوض مواجهات اليكترونية لتشويه صورة الخصم السياسي بنوع جديد من الارهاب اللفظي المنظم ، وتعمل أطراف أخرى على ضرب هيبة الدولة بالاساءة الى رموزها الحاليين بشكل لم تعتد عليه الشخصية التونسية.

وتونس ما بعد الثورة تعيش حالة من الاستقطاب الحزبي والايديولوجي وصراعا على السلطة وصل الى حد التكفير والتخوين والاقصاء والعزل السياسي . فالاسلاميون يعملون على التغلغل في مفاصل الدولة وإحكام السيطرة عليها عبر التشريع القانوني لجماعات حماية الثورة ، ودعا راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الحاكمة الى إعادة تأسيس لجان الاحياء، ويعتقد المراقبون أن تونس الحاليّة صارت أكثر خوفا على سيادتها كدولة. وباتت المرأة تخاف على حقوقها في ظل اتساع دائرة التأثير السلفي.