التداخل بين الأحداث الراهنة التي تعتمل في مصر وبين الماضي الذي تتحكم بعض تياراته الآن بهذا البلد يتطلب قراءات معمّقة تتعدى حدود الأراضي المصرية التي تزخر بمؤشرات وتداعيات الأخونة ومخاطرها في ظل تداعيات الانقسام السياسي الذي تجاوز النخبة إلى الشارع.
الأحداث اليومية في مصر لا تزال مؤثرة، وبعضها يكاد يؤسس لما سيكون عليه حال مصر ونظامها في المستقبل.
وكل ما يجري في المنطقة العربية في هذا التوقيت لا يمكن النظر إليه بالطريقة التي كنا ننظر من خلالها للأحداث الاعتيادية العابرة، والاكتفاء برصد المؤشرات الجديدة للصدام بين تيار الإسلام السياسي وبين الدولة والمجتمع.. وإن كان الصدام هذه المرة يتجدد بعد أن انتقل تيار الإسلام السياسي إلى مربع الحكم.
وتعتبر كل من مصر وتونس الآن مختبراً حياً لمتابعة الصدام الجديد بين المجتمع، في أكثر من رقعة، وبين أجندات التيار الإسلامي.
وأبرز نتيجة نخرج بها هي أن كل المعطيات والشواهد المتوفرة تفيد بأن تيار الإسلام السياسي، ممثلاً بجماعة «الإخوان»، فشل في تقديم نفسه للآخرين بوصفه أحد مكونات المجتمع وبأنه ليس نقيضاً أو خصماً لبقية المكونات الأخرى بما في ذلك انحياز تلك المكونات للطابع المدني للدولة باعتبار أن هذا الطابع يمثل في مستواه الثقافي إرادة مجتمعية، وهو ما يعني أن محاولة تغيير هوية الدولة ونزع طابعها المدني يمثل كذلك صداماً مباشراً مع مجتمع الدولة..
فالدولة ليست في النهاية إلا تمثيلاً لمجتمعها، وهو الذي يتوافق ضمنياً على تحديد هويتها وطابعها. ولا يمكن لهذه الدولة أن تستقل بوجودها أو أن تبدل طابعها بمعزل عن الإنسان.
وفي حالة ما إذا أقدم طرف سياسي على القيام بخطوة كهذه منفرداً، وعبر استغلال وجوده على رأس السلطة، فسيكون على ذلك الطرف أن يتوقع اندلاع الفوضى والغضب الشعبي، وبإزاء مثل هذا الوضع لا يمكنه إلا القيام بأحد أمرين: إما التراجع، وإما تحمل أعباء وتكاليف إكراه المجتمع على القبول الإجباري بتغيير قواعد وأسس هوية الدولة. وكل الأحداث الساخنة التي نشهدها في العديد من الدول ما يشير صراحة إلى أن هذه الإشكالية هي الخلفية التي تولد التداعيات في مصر وغيرها.
صعود وتهديدات
أضاف صعود «الإخوان» إلى الحكم في مصر تهديدات وتحديات جديدة وخطيرة، ويلزم القاهرة الآن إعادة ترتيب تحدياتها بعد أن كان الهاجس الأول الذي يهدد الأمن القومي المصري يتمثل في الطائفية الدينية التي كانت تنطفئ لتشتعل في متوالية لم تتوقف.
ويعني ظهور تحديات جديدة استبعاد هذا الهاجس تماماً. أما التهديد الجديد والأكثر بروزاً فهو قابلية مصر للانتقال إلى مرحلة الفوضى الشاملة والاضطرابات الأهلية والاجتماعية، وثمة من يحذر من التمهيد للاحتراب الأهلي الداخلي.
وبخاصة أن الجماعات التي بدأت تهدد باللجوء إلى العنف تقوم بتطوير أدواتها، وانسداد أفق العمل السياسي بعد تشدد حكومة الإخوان ما يساعد على توتير الأجواء وتفريخ جماعات عنف جديدة لم يكن لها وجود من قبل، سواء المحسوبة على الإخوان أنفسهم أو المحسوبة على الشارع الذي دخل في مواجهة مفتوحة مع الإخوان ويبدو أنه لن يتوقف.
نزعات جهوية
وإذا ما استمرت الفوضى في مصر فإنها قد تؤسس لما يتجاوز الانقسام والصراع السياسي والمجتمعي بين التيارات المدنية وجماعة «الإخوان» وصولاً إلى ظهور نزعات إقليمية وجهوية تعمل على تقسيم شعب مصر إلى أقاليم تحيل مسمياتها إلى مدلولات جهوية، مثل الحديث عن شعب السويس وشعب بورسعيد.
وكل المخاوف قابلة للتحقق بفعل غياب الدولة وانهيار الأمن وتأجيل ما تقتضيه المراحل الانتقالية في الدول من عدالة وإنصاف للضحايا. وهناك مؤشرات عديدة على خروج بعض مظاهر الاحتجاجات عن سيطرة القوى السياسية.
وما يقدمه الشارع المصري من دلائل بهذا الصدد لا يهدد فحسب النظام العام وحكومة «الإخوان» بالانهيار بل ويهدد أيضاً كل التيارات والأحزاب السياسية بسحب قدرتها على التحكم بالشارع.
وفي إطار هذه الحالة ظهرت تشكيلات اجتماعية جديدة وغريبة مثل البلاك بلوك. تقابلها جاهزية البيئة الاجتماعية المصرية للعنف لأسباب عديدة ومتداخلة، وثمة جاهزية كذلك لإفراز جماعات متطرفة قد تستخدم السلاح بالفعل، ما دام الحديث على المستوى النظري وعلى مستوى البيانات يشرع منذ الآن للدفاع عما يحسبه البعض بداية لتمكين الإسلام على يد الإخوان، ومقدمة لإعلان الخلافة، واعتبار صعود محمد مرسي الإخواني الخطوة الأولى في هذا المسار.
ميليشيا «الإخوان»
وحتى الإخوان أنفسهم لديهم مثل هذه الميليشيا وسبق أن استخدموها بالفعل في مواقف عديدة، أبرزها اقتحام السجون بالتزامن مع سقوط النظام السابق، ويقال إن مسلحين من حركة «حماس» الفلسطينية ساعدوا «الإخوان» في اقتحام السجون وتهريب المساجين مقابل استعادة الحركة الفلسطينية عناصر تابعة لها كانت مسجونة في مصر.. فيما تمكن «الإخوان» حينها في المقابل من إخراج قياداتهم من السجون.
مصارحة ضرورية
ويبدو أن قيادات «الإخوان» بحاجة ماسة في هذه المرحلة لمن يصارحهم بحقيقة أساسية وبديهية أيضاً. والتذكير بها ليس حرصاً بقدر ما هو حرص على مصر وأمن وسلامة شعبها.
وموجز القول إن تماسك المجتمعات المعاصرة يرتبط بالحفاظ على كيان الدولة. وبالتالي فإن كل أنظمة الحكم، بكل أشكالها وأنواعها، مطالبة بعدم المساس بالدولة، وعدم الاقتراب من الأسس التي تكتسب من خلالها الدول الصفة التمثيلية التي تجعلها معبرة عن كل مواطنيها. لكن مشكلة جماعات الإسلام السياسي بصفة عامة، أن أتباعها يعجزون عن الفصل بين الدولة والسلطة. وسبب عجزهم لا يتعلق بقصور معرفي يمكن تلافيه بالبحث والاجتهاد والممارسة بل يتعلق أساساً بالتصورات التي يحملونها حول الدولة.
وتسبّب حسن البنا في تأسيس جماعة صدامية تمارس العنف والصدام على مستويات عديدة. إلا أن أخطر أشكال الصدام هو الذي تتبناه جماعة الإخوان ضد الدولة الحديثة وما تمثله للمجتمع المعاصر.
ووضع البنا البذرة الأولى لهذا التيار الصدامي، ثم جاء سيد قطب الذي عزز بكتاباته منهج وسلوك «الإخوان» الذي بدأت معالمه تظهر على أرض الواقع أخيراً في مصر وبذلك أصبح المنهج الإخواني أكثر وضوحاً الآن، بعد أن كان في السابق مجرد أفكار نظرية.
وسبق أن حذر مفكرون وباحثون من وجود تناقض وصدام حاد بين فكر «الإخوان» وبين الدولة الوطنية، وهو تناقض ثنائي مزدوج يطال الدولة الوطنية بشكلها الراهن كما يطال كذلك ملامحها في اجتهادات العقل العربي والإسلامي في مراحله المختلفة.
بمعنى أن الدولة التي يريد «الإخوان» إقامتها على الواقع هي دولة من نوع خاص لا علاقة لها بشكل ووظيفة الدولة المعاصرة، كما لا علاقة لها كذلك بالاجتهادات النظرية في الثقافة السياسية العربية والإسلامية المعاصرة.. بل هي مجرد دولة إخوانية تتغلّف بالدين لإعادة تدجين المجتمع وهدم أركانه.
وعليه فإن المحنة التي أصابت مصر لا تكمن في صعود «الإخوان» إلى السلطة كأشخاص وأفراد، بل تكمن في ارتهان جماعة الحكم الجديدة لنوع استثنائي من الولاء، يضع الجماعة وأنصارها في المقدمة، ثم لا يرى مكاناً للدولة والشعب إلا في المقدمة ذاتها، ولا مكان في عقل الجماعة ووعيها إلا للجماعة ثم الجماعة ثم الجماعة.
كان الإخوان يقدمون أنفسهم للآخرين باعتبارهم جماعة معارضة للنظام، وهم بالفعل معارضون لكل الأنظمة، لكن معارضتهم لا تتوقف عند حدود النظام الذي يعني سلطة الحكم فقط، بل إنهم يعارضون النظام بالمعنى الحرفي للكلمة.
إعادة تصنيف
وفي تداعيات ما يحدث في مصر وتونس ما يستدعي إعادة تعريف جماعة «الإخوان» أو تصنيفها بناءً على ممارساتها التي تشهد على أنها جماعة ضد النظام وضد الدولة أيضاً.
وما مؤشرات أخونة الدولة في مصر إلا دليل على ارتكاز العلاقة بين «الإخوان» والدولة على الضدية والصدام. وما من تهديد يواجه مصر الآن أكثر من الأخونة والاحتمالات التي ربما تدفع المراقبين إلى الحديث عن مصر وقد تبدلت من دولة حديثة إلى دولة للجماعة.
وما حدث في تونس يشير إلى اقتراب نهاية حكم «الإخوان» بعد ثبوت فشل مشروعهم وفشل انسجامهم مع المكوّنات السياسية.. إذ انتفض الشعب التونسي ضد حكومة حركة النهضة الإخوانية في كل المدن التونسية، وحرق المحتجون عدداً من مقرات الحركة عقب اغتيال أحد رموز المعارضة.
صعود «الإخوان» إلى حكم مصر خطأ تاريخي
لم تترك الأحداث المتسارعة التي تعيشها مصر بعد صعود الإخوان المسلمين إلى الحكم أي شك في تمسّك هذا التشكيل السياسي بالسلطة وتعطشّه لها.. كما أثبتت أحداث الأمس أنّ الشعب المصري لم يثر على الديكتاتورية السابقة ليستبدلها بدكتاتورية أخرى إقصائية لا تعترف بالمعارضة.
ويؤكد كثير من السياسيين والمفكرين المصريين أن صعود الإخوان إلى الحكم كان خطأ تاريخياً سيكون ثمنه باهظاً على الشعب المصري. والمشاهد التي غصّت بها الميادين تظهر أنّ الحركة الاحتجاجية على التفرد في السلطة ورفض الإصغاء للرأي العام لن تتوقف.
الأخونة والانقسام في مصر
فتحت الحالة المصرية والمآلات التي وجدت كل من ليبيا وتونس نفسها فيها أبواب التساؤلات عن أهداف تنظيم الأخوان المسلمين.. في حين قرع ضبط خليّتيْن لأتباع التنظيم في الدولة والدور الذي تلعبه تكتلات سياسية تتبع فكر التنظيم في عدد من دول المنطقة جرس صحوة.
والملف، الذي نشرته «البيان»، بالتعاون مع مركز المزماة، على حلقات رصد ما يجري في مصر من تطوّرات بعدما تكشّف للمصريين أن القيادة الجديدة لديها ما هو أبعد من حكم بلد وتسيير شؤونه، رغم أنّ الحصيلة حتى الآن عقيمة في كل المجالات ولم تثمر سوى هبّة شعبية وبوادر ثورة ثانية.
في مصر كثير من التطوّرات التي تستحق التأمل، وبخاصة التمعّن في مخاطر استمرار الإخوان في حكم مصر وبالتالي أخونتها.. وفي مخاطر تصدير هذه الأخونة.
وفي تأمل المشهد عن بعد، يلاحظ أن معطيات اجتماعية خطيرة بدأت تفصح عن نفسها في الشارع المصري لمواجهة صعود انتهازي للجماعة إلى مؤسسات الدولة وليس في قصر الاتحادية فقط.
الأوضاع الحالية التي تعيشها مصر، ومن دول أخرى في إفريقيا، تعتبر اختباراً لجماعات الإسلام السياسي ومدى إمكانية قبولها بالتعايش مع أسس الدولة المدنية بدلاً من العمل على تقويضها كما هو حاصل والذي لن تدعه الشعوب يمر دون ردة فعل.
.. وإلى جانب كل ذلك، تفرض محاولة هذه الجماعة وخلاياها ومن يدعمها إلى نشر الفوضى في دولة الإمارات، بالتوازي مع ركوب موجات سياسية تمر بها دول أخرى في المنطقة، البحث المعمّق في أهداف هذه الجماعة الحقيقية.. التي أقل ما يمكن وصفها به هو الانتهازية.
إضاءة
الإخوان المسلمون هي جماعة أسسها حسن البنا في مصر في مارس 1928.. ونشرت فكرها في 72 دولة عربية وإسلامية وغير إسلامية.
والكلمة الفصل في هذا التنظيم هي للمرشد العام الذي يُنتخب عن طريق مجلس الشورى العام بعد أن يكون مضى على انتظامه في الجماعة «أخاً عاملاً» بما لايقل عن 15 سنة هلالية ولا يقل عمره عن 40. ويظل المرشد في منصبه ست سنوات، قابلة للتجديد مرة واحدة، وحتى اليوم لم ينتخب المرشد إلا بواسطة أعضاء مكتب الإرشاد لأسباب تتعلّق باحترازات أمنية تحول دون اجتماع مجلس الشورى العام.
ومكتب الإرشاد يختار أعضاؤه عن طريق الاقتراع السري، ومدة العضوية فيه أربع سنوات هجرية.. ويتألف مكتب الإرشاد العالمي من 13 عضواً عدا المرشد.
لمحة
تعتبر حركة النهضة التونسية أهم تيار كان يتبنى فكر ومنهج الإخوان المسلمين في تونس.. لكن الحركة ابتعدت بعد ذلك عن الفكر الإخواني لترسم طريقها وحدها حسب أحد مؤسسيها عبدالفتاح مورو. تأسّست الحركة في 1972 على يد مورو وراشد الغنوشي، وتتبنى آيديولوجيا الديمقراطية الإسلامية.. وكان لها في الحكومة المستقيلة 16 وزيراً من أصل30.
استيلاء
يثبت «الإخوان»، في مصر يوماً بعد يوم أنهم استولوا على السلطة أكثر مما وصلوا إلى سدة النظام عن جدارة واستحقاق، وإنهم ما زالوا يتصرفون بمنطق التنظيم السري الذي يخاف النور، ولا يثق بالقوى السياسية الأخرى ذات التاريخ في معارضة الطغيان، ولا يطمئن إلى الشراكة معها.
وأثبتت الوقائع أن «الإخوان» يتصرفون تحت ضغط الخوف من الوقت، فيتعجلون السيطرة حتى لو اقتضى الأمر التصادم مع «الشارع» الذي كانوا يزعمون أنه مصدر قوتهم، بل التلويح بحمام دم لصد أي معارضة!.


