يروي نازحون من المناطق المنكوبة أن مخالب قوات نظام بشار الأسد لا تكاد تنفك ولو لبرهة واحدة من مطاردة النازحين الذين فروا نحو دمشق وأريافها هرباً من نيران الدبابات وقذائف الهاون وأزيز الرصاص الحي، وكأن القتل والتشريد والاعتقال وحرق المنازل وتدمير الأحياء بكاملها وتحويلها إلى أطلال لم يشف غليلهم، كما يقولون، بل يريدون تفريغ شحناتهم الانتقامية بضرب واعتقال كل من يمد يد العون خلسة لمساعدة النازحين واقتيادهم مع العائلات النازحة إلى أقبية السجون.

 وحدا ذلك بالنازحين، والذين غالبيتهم من النساء والأطفال، إلى الابتعاد عن أنماط حياتهم الخاصة من أجل التكيف مع محيطهم الاجتماعي ليمحوا عن أنفسهم ولو ظاهرياً شبهة انتمائهم إلى المناطق المنتفضة. ويقدر النشطاء ان عدد النازحين من أحياء حمص يقارب المليون، معظمهم فروا باتجاه دمشق وريف دمشق، والبعض منهم وصل إلى الأردن.

 

حذر وترقب

ففي بلدة قدسيا بريف دمشق وتحديداً عند الفجر، تقف شاحنة صغيرة الحجم محملة ببقايا متناثرة من الأثاث المنزلي أمام أحد البيوت. تترجل منها امرأة في الأربعينيات من العمر مصطحبة معها خمسة أطفال تتراوح أعمارهم بين الثالثة والسادسة عشرة عاماً. تشوب حركاتهم نوع من الحذر والصمت والتكتم الشديد، تشي للوهلة الأولى أن مصيبة على وشك الحدوث، وكأن هؤلاء ينوون اقتراف خطيئة كبرى، ولهذا يتوارون عن الأنظار خشية من الفضيحة والعار، بينما يصعق المشهد الجميع حينما يكتشف أنهم شتات من النازحين الفارين من نيران قوات الأسد من حمص وتحديداً من ناحية القصير.

ومن ثم، «يقوم هؤلاء بنقل أثاث منزلهم المتبقي بسرية تامة ويتخذون هذه الخطوات الاحترازية خوفاً من مطاردة قوات الأسد وجواسيسهم المرابطين في الحي»، بحسب ما يقول الناشط أبو فياض الذي رافق «البيان» من أجل رصد وضع هذه العائلة المنكوبة عن قرب.

وترتسم على تقاسيم وملامح وجوه الأطفال حالة من الذعر والارتباك، يطوفون حول والدتهم، ويتشبثون بعباءتها خوفاً من ضياعها في أية لحظة، خاصة بعدما ذاقوا مرارة فقدان والدهم في تظاهرة سلمية.

 

بانتظار المساعدات

وتقول أم حنين، وهي تحدق بطفلتها الرضيعة النائمة في حضنها ومتكئة على أرض مجردة من المفروشات والأثاث ريثما تأتي المساعدات من أهالي البلدة، إن زوجها «قتل على يد قوات النظام في مظاهرة خرجت في القصير قبل أربعة أشهر، ومنذ ذلك الحين وقوات النظام لم تتركنا بشأننا، حيث كانوا يدهمون المنزل يومياً للبحث عن عناصر الجيش الحر بحسب زعمهم، ما حدا بنا للجوء إلى دمشق بعد رحلة شاقة ووعرة بسبب انتشار الحواجز الأمنية والعسكرية التي تحرم على المنكوبين حتى حق النزوح نحو المناطق الداخلية».

 

أبو فياض

ومع بزوغ الشمس، يصطحب «البيان» أبو فياض في جولة على بعض العائلات النازحة وهو يقول إن «الغريب في الأمر أنك تمشي في شوارع وأزقة هذه البلدة دون أن تتلمس بأن أعداد العائلات النازحة وصلت إلى أكثر من ألف عائلة»، وكأن أبو فياض ينوي اختزال مأساة النازحين الذين هربوا من نيران قوات الأسد وأصبحوا أسرى ملاجئهم، كونه من المحال أن يفصح الشخص النازح عن هويته، وكذلك الحال بالنسبة لمن يقوم بإيواء النازحين بعدما تم اقتياد الكثير من العائلات النازحة مع المستقبلين لهم إلى السجن دون معرفة مكان اعتقالهم.

كما ارتأت بعض العائلات وغالبيتهم من النساء تغيير نمط حياتهم الخاصة من طريقة اللبس واللهجة المحكية بما يتوافق مع محيطهم الاجتماعي تفادياً للوقوع في يد الأجهزة الأمنية التي تمارس الضغط على العائلات للكشف عن مصير الأزواج والأولاد الشباب الذين تطوعوا في الجيش الحر أو انشقوا عن النظام.

 

رهبة الاختلاط

وتقول أم أحمد، وهي أرملة تعيش عند أخيها في دار صغيرة لا تكاد تتسع لعائلة واحدة برفقة أربعة من أولادها ببلدة الهامة المجاورة لبلدة قدسيا بريف دمشق: «هربنا من حي الخالدية في حمص بحثاً عن ملجأ آمن، والآن نعيش حالة أشبه بالسجن لأننا محرومون الخروج من المنزل والاختلاط مع الجيران خوفاً من المخبرين لدى أجهزة الأمن». وتضيف القول: «لا نملك القدرة على التأقلم مع هذا السجن، فأحياناً نقصد سطح المنزل في الليل لنلقي نظرة على الخارج محاولة منا لكسر العزلة المفروضة علينا».

 

مأساة واختباء

بيد أن مأساة هذه العائلة لا تتوقف عند هذا الحد، بل إن أحمد، 27 عاماً، وهو الابن الأكبر في العائلة يجيد مهنة الخياطة وكان يدير ورشة في حي الخالدية، أما الآن فهو مختبئ خلف جدران منزل خاله ويخشى المغادرة.

ويقول أحمد إنه لن يستطيع أن يخطو خطوة واحدة خارج المنزل بسبب انتشار وتربص الحواجز الأمنية على كل المفارق والطرقات، مشيرا الى «اعتقال أهالي حمص على الهوية الشخصية عشوائياً».