الاستيطان هو الاستيطان، حتى وإن اختلفت أشكاله وذرائعه، إلا أن سمومه تتفشى في جسد الأرض الفلسطينية وتزداد خطورتها يوما بعد يوم. واللافت للنظر أن سلطات الاحتلال ومستوطنيه باتوا يبتكرون سبلاً نوعية لتهويد الأراضي والمقدسات الفلسطينية وتغيير معالمها وفرض وجودهم عليها. فمن مصادرة الأراضي لإقامة المستوطنات أو البؤر العشوائية وغير العشوائية وما يرافقها من شق طرقات ومرافق خدمية، إلى تشييد معالم عسكرية ووضع كاميرات مراقبة تعدّ على الفلسطينيين أنفاسهم، وتهويد مقابر وترحيل سكان ومصادرة أراضي، ثم الحديث عن هدم وتدمير ليس بغرض الإزالة وإنما تحسباً من سقوط سيشكل «خطراً على الجميع».

ومنذ بداية العام الجاري، يكثف نواب اليمين الاسرائيلي الحاكم جهودهم لتسمين الاستيطان وشرعنة بؤر استيطانية «عشوائية»، بما يكفل توسيعها والتهامها لمساحات أكبر من أراضي الفلسطينيين وممتلكاتهم، ومن ذلك إحياء مخطط للاستيلاء على 10 في المئة من مساحة الضفة، لإقامة مستوطنات جديدة فيها، يقع معظمها في المنطقة «ج» الخاضعة للسيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية، فيما يقع 81 موقعا منها في مناطق «أ» و«ب» التي تخضع للسيطرة المدنية الفلسطينية. وتشمل أجزاء من مسار جدار الفصل العنصري هذه الأراضي الفلسطينية، التي صودرت وتصادر في سرية تامة، ضمن خطة وُضعت قبل اتفاقات أوسلو، وتضم مستوطنات غير موجودة وأخرى تتجاوز مساحتها ما هو قائم فعلياً.

وما يعزز هذا التوجه الاستيطاني التهويدي أيضا، إعلان مستوطني حزب «الليكود» عن مؤتمر شعاره ضم الضفة إلى إسرائيل، بدعوة من وزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية ليمور ليفنات وخمسة أعضاء كنيست من الحزب الحاكم، وتغير هدف هذا المؤتمر من التظاهر ضد قرار المحكمة العليا بإخلاء وهدم مستوطنة «غفعات هئولبناه»، المقامة على أراضي الفلسطينيين قرب رام الله، إلى «فرض السيادة الإسرائيلية على يهودا والسامرة»، وهي التسمية الإسرائيلية للضفة.

 

نهب وعطاءات

وبعد قمع الاحتلال لمسيرات إحياء «يوم الأرض» الفلسطيني، أعلنت «وزارة الإسكان» عن عطاءات لبناء نحو 1121 وحدة استيطانية، غالبيتها تتركز في الجزء الشرقي من مدينة القدس، وبعضها في الضفة، بالإضافة إلى وحدات سكنية أخرى في هضبة الجولان المحتلة، وكأنها ترد على «يوم الأرض» بسلب ونهب المزيد من الأراضي.

وبحسب العطاءات الجديدة، فإنه سيتم بناء 872 وحدة استيطانية في مستوطنة جبل أبوغنيم في الجزء الجنوبي من القدس الشرقية، بالإضافة إلى بناء 180 وحدة استيطانية أخرى في مستوطنة جفعات زئيف بالضفة الغربية، ونحو 69 وحدة في وحدة استيطانية كاتزيرين» في الجولان المحتلة.

 

باب المغاربة

وليس خجلاً منها أو مراعاة لمشاعر أصحاب الأرض، وإنما تبجحا في خلق الذرائع والأسباب، طالبت بلدية الاحتلال في القدس بهدم جسر باب المغاربة، المؤدي للمسجد الأقصى، بذريعة أنه «يشكل خطراً على سلامة الجمهور». وأعلنت سلطات الاحتلال أنها تريد بناء جسر جديد مكانه يسمح لقوات الاحتلال باقتحام الحرم في حال حدوث مواجهات بين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية.

وجددت بلدية الاحتلال، بالتعاون مع مركز ما يسمى «إرث حائط المبكى»، مطالبتها للقيادة السياسية في إسرائيل بالموافقة على هدم الجسر، الذي كان قد أوقف العمل فيه بعد تدخل أردني ومصري وفلسطيني، وذلك رغم الحملة الشعبية ضد هدم الجسر، التي حذرت من «مؤامرة إسرائيلية» تهدف إلى تقويض أركان المسجد الأقصى. ورغم أيضا تحذير بعض الأوساط الإسرائيلية من أن اتفاقية السلام بين إسرائيل والأردن تنص على أن الأردن هو الجهة المسؤولة عن مراقبة ما يحدث في القدس.

كذلك، توالت التحذيرات الفلسطينية من جدية مخططات الاحتلال لهدم «الأقصى» وإقامة الهيكل المزعوم، باختلاق ذرائع وحجج واهية، لن يكف عن تسويقها الاحتلال، منها اصطناع زلزال وهمي ينهار على إثره المسجد المبارك.

 

كلية عسكرية

إلا أن ما يدق ناقوساً جديداً للخطر كشف تقارير إسرائيلية تنفيذ مخطط بناء مقر جديد للكلية العسكرية لجيش الاحتلال، على مساحة نحو 14 دونماً من الأراضي الفلسطينية، على السفح الجنوبي لجبل المشارف وسط مدينة القدس المحتلة، ينقل إليها جميع كليات جيش الاحتلال ومنها كلية القيادة والاركان، بما يخدم مخطط ضم وتهويد المدينة وتعزيز مكانتها كعاصمة لدولة الاحتلال وكمركز لسلطته.

وتقضي المخططات ببناء مكاتب للقيادة ستتضمن مكاتب قائد الكلية وقائد القيادة والاركان على مساحة دونمين من الأراضي التي تمت مصادرتها، فيما ستقام صفوف دراسية تستوعب ٤٠٠ طالب و١٣٠ اكاديمياً على مساحة ثمانية دونمات اخرى، ما يجعل مجموع مساحة البناء في المنطقة حوالي ٤٠ الف متر مربع.

 

كاميرات مراقبة

ومع أن كافة المناطق الفلسطينية تخضع لرقابة الاحتلال، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلا أن تركيب كاميرات مراقبة على مبان استيطانية تم تشييدها مؤخراً لمراقبة المسجد الأقصى المبارك ومقبرة الرحمة وبلدة سلوان وسائر المنطقة، يُعد أحد المخاطر الجديدة التي تستوجب حراكاً جدياً للتصدي لها.

ولا يعتبر تشييد بؤرة استيطانية جديدة أسفل فندق الاقواس السبعة في سفح جبل الزيتون - الطور المطل على المسجد الاقصى والقدس القديمة بحد ذاته أمراً جديداً، إلا أن السرية التامة التي رافقت عمليات بناء هذه البؤرة، والتي رافقها تركيب كاميرات مراقبة حديثة هو الأمر المستهجن، لاسيما في ظل تحذيرات من أن هذه المباني جاءت على شكل كرفانات ثابتة من السهل توسيعها لتصبح مستوطنة تمتد على طول أراضي سفح جبل الزيتون، لإحكام القبضة على القدس القديمة ومحيطها.

 

«برافر» الاقتلاعي

ولم يسلم أهالي النقب المحتل من سياسات الاستيطان والتهجير، إذ صادقت الحكومة الإسرائيلية قبل شهور على مخطط، تم الكشف عنه في إبريل الجاري، يهدف إلى تهجير ما بين 45 و65 ألفا من فلسطينيي النقب من قراهم ومصادرة مئات آلاف الدونمات من أراضيهم، عبر مخطط أسمته «برافر». كذلك، أقرّت شرطة الاحتلال إقامة وحدة بوليسية خاصة في النقب، تضم 200 عنصر، سيتم تدريبهم على قمع أصحاب البيوت وأهالي القرى الفلسطينية التي تستعد حكومة الاحتلال لاقتلاعهم من أراضيهم في الفترة المقبلة، ما يخدم مخطط «برافر» الاقتلاعي، الذي يعدّ تمهيداً لإعلان الحرب على أهل النقب، أصحاب الأرض، بحسب رئيس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة النائب في الكنيست محمد بركة.

 

استيطان يسبق الحوار

ومن الملاحظ والمؤكد أيضا، أن حكومة الاحتلال لطالما تستبق أو ترافق أي جلسات حوار أو مفاوضات مع الفلسطينيين، سواء كانت مباشرة أو عن طريق طرف ثالث، بتكثيف للاستيطان وتشريع بؤر استيطانية جديدة أو تأكيد عزمها على ذلك.

وعلى سبيل المثال وليس الحصر، استبق رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو لقاءه مع الوفد الفلسطيني، الذي حمل له رسالة القيادة الفلسطينية حول عملية السلام المتعثرة، بعقد اجتماع لوزراء حزب الليكود الحاكم لبحث موضوع المستوطنات، وتحدث عن تكثيف الاستيطان وتشريع بؤر استيطانية عشوائية في قلب مدينة الخليل، والتي كان قد تعهد أمام المحكمة العليا بإخلاء المستوطنين منها خلال الشهر الجاري، معتبرا أن هدم البيوت في هذه البؤرة الاستيطانية، المقامة على أراضي الفلسطينيين، هو «قرار جائر لن يتمكن الجمهور من الصمود أمامه». كما أنه صرح قبل عدة أسابيع إنه يعتزم تشريع ثلاث بؤر استيطانية وضمها كأحياء إلى مستوطنات.

تصريحات ووعود ليس فيها جديد، إلا أنها تكرس إرادة جائرة من المحتل لمصادرة أراضي الفلسطينيين، وتشويه وتدنيس معالم مدنهم وقراهم، وتهويد كل شبر من أرضهم، التي لطالما ارتوت بدماء شهدائهم وجرحاهم على مدار عقود.

 

اقتحامات وحفلات رقص تنتهك حرمة «الأقصى»

 

يشكل المسجد الأقصى المبارك ملعباً آخر لتجسيد عربدة وتطاول الاحتلال ومستوطنيه على الفلسطينيين ومقدساتهم.

ورغم أن المسجد بقي عرضة لانتهاكات الاحتلال على مر عقود طويلة، إلا أن طرق تدنيسه باتت أكثر وضوحاً واستفزازاً مؤخراً. إذ لم يقتصر ذلك على حملات الاقتحامات الجماعية التي يتعرض لها «الأقصى» بين الفينة والأخرى، والتي يرافقها «مرشدون» يقدمون روايات يهودية زائفة عن المكان وتاريخه، بل في إقامة طقوس وشعائر «تلمودية» وحفلات رقص وغناء صاخبة تنتهك قدسيته وحرمته.

وازدادت وتيرة تلك الاقتحامات، التي تدعو إليها باستمرار جماعات متطرفة، خلال الاحتفالات بالأعياد اليهودية، التي انطلقت مطلع إبريل الجاري واستمرت قرابة أسبوع. وتمثلت في توافد مجموعات متفرقة من عشرات المستوطنين على أيام متتالية في ساحات المسجد الأقصى بحراسات مشددة من جنود وشرطة الاحتلال، يجوبون المكان بحرية «وعنجهية» تامة، ويؤدون طقوساً تلمودية، رافقها اعتقال سلطات الاحتلال عشرات الشبان المقدسيين الذين كانوا يرابطون في المسجد لحمايته بأجسادهم وابتهالهم لرب البيت الذي يحميه.

تلك السلوكيات المنظمة والمدبرة، والتي تحميها مظلة «حرية الأديان» في دولة الاحتلال، لم تقتصر على الطقوس والشعائر التلمودية، بل رافقها دعوات لحفلات غنائية ليلة صاخبة في القدس القديمة ومحيط «الأقصى» يتخللها مسيرات يهودية استفزازية، تحت شعار: «أنغام في القدس القديمة»، يحييها فنانون من أرجاء مختلفة، وتستمر لقرابة ثلاثة أيام متتالية، لتكون أشبه بـ«مهرجان» تهويدي في قلب الأقصى. فضلا عن تنظيم حلقات رقص وغناء عند مدخل المسجد، من عدة جهات كان آخرها ما شهدته بوابة السلسلة، والتخطيط لتقديم «قرابين» لذبحها في باحات المسجد المبارك.

ورغم كل الانتقادات وحملات الشجب والإدانة والاستنكار، إلا ان الاحتلال ومستوطنيه قادرون في كل مرة على اختلاق أشكال جديدة لانتهاكاته وتدنيسه حرمة المقدسات الفلسطينية، لطالما يتم تغليفها بدواعٍ دينية أو أمنية أو استراتيجية لا يتم الكشف عن تفاصيلها أو خباياها..