بالأمس كان النهار في مهرجان كان السينمائي الدولي إيطالياً بامتياز، فرغم أن فيلم "قصر في إيطاليا" للممثلة والمخرجة الإيطالية (الفرنسية وشقيقة كارلا بروني) فاليريا بروني تيديسكي، يحمل العلم الفرنسي، فإن أصول مخرجته والأحداث وغالبية الشخصيات إيطالية، وبرغم أن الشخصية الثانية في تسلسل الممثلين، إلى جانب فاليريا، هو خطيبها الفرنسي لويس غارّيل، فإن الدور الرجالي الأهم في الفيلم، هو للنجم الإيطالي الصاعد فيليبّو تيمي، الذي سبق وأن حضر مهرجان كان ببطولة فيلم "الانتصار" لمعلم السينما الإيطالي ماركو بيلّوكيو.
دفاتر السينما
أما الفيلم الإيطالي الثاني، فقد كان "الجمال الباهر" للمخرج النابوليتاني باولو سورّينتينو، والذي ترقّبه الجمهور كثيراً، لا سيمّا وأن حضور المخرج في مسابقة كان للمرة الخامسة على التوالي (أخرج ستة أفلام حتى الآن) قد أثار حفيضة النقد الفرنسي، وانتقدت مجلة "دفاتر السينما" المدير الفني للمهرجان تييري فريمو، لاختياره عملاً من أعمال سورّينتينو، لأنها، أي المجلة، تعتبر أعماله "غير كبيرة، ولا تستحق الأفضلية التي خصصها له مهرجان كان" باختياره خمسة من أفلامه الستة ضمن مسابقته الرسمية.
إلاّ أن موقف "دفاتر السينما" لا يتوافق مع الرأي العام الذي طغى بعد مشاهدة الفيلم، والذي تميّز بقبول شبه عام، وبلغ بعض المواقف إلى حد اعتبار "الجمال الباهر" الفيلم الأنسب والأقوى للفوز بالسعفة الذهبية، ورشّح الكثيرون بطله، نجم المسرح والسينما توني سيرفيلّو لجائزة أفضل ممثل، وربما لن تكون الاعتراضات كثيرة في حال حدوث أي من الاحتمالين.
الحاضرة الخالدة
يحلو للإيطاليين، وللرومانيين، اعتبار مدينتهم "الحاضرة الخالدة" كونها حملت الحضارة إلى بقاع العالم شتى، ولا تزال تحتفظ ببهائها رغم القدم والإهمال الذي أصاب كثيراً من أحيائها، ورغم فقدانها "نسيم الغروب" القادم من البحر بسبب مئات العمارات السكنية العالية التي بُنيت بين المدينة وبحرها، ويحلو للإيطاليين تسمية أبطال الكرة الذين يلعبون في نادي المدينة باسم قياصرتهم السابقين.
فقد كان البرازيلي باولو روبيرتو فالكاو القيصر الثامن، وفرانتشيسكو توتّي آخر ملوك روما، وهي المدينة التي سحر القادم إليها بالذات إذا ما صادف وزارها في ربيع أيار أو في خريف أكتوبر، وهذا ما يفعله، ابن نابولي الجنوبية المتوسطيّة، باولو سورّينتينو مع المدينة، إذْ يبدأ فيلمه بطقس روماني قديم ومشهد إطلاقة المدفع الخُلّبية لتُعلن منتصف النهار، ومع السائح الصيني الذي ينهار هاوياً إلى الأرض، لأن قلبه لم يحتمل كل الجمال الذي يشاهده من حديقة "جانيكولو" على تلّة "البينتشو" المطلّة على المدينة.
بعد ذلك، يترك سورّينينو نفسه، والمشاهد، يُقادان بعيني الكاتب والصحافي جيب غامبارديلا الذي يؤديه ببراعة هائلة توني سيرفيلّو، الممثل المفضّل لدى سورّينتينو، والذي أدى أدوار البطولة في غالب أعماله، ومنها شريط "الديفو" الذي شارك به سورّينينو في دورة عام 2008 من مهرجان كان، وفاز بجائزة لجنة لتحكيم الخاصة، وكدليل على أهمية سيرفيلّو لأعمال سورينتينو، أن شريطه السابق "يفترض أن يكون هذا هو المكان"، ورغم أداء شون بين دور البطولة فيه، لم يُحقّق النجاح المطلوب، وكأن الجمهور طالب المخرج بالعودة إلى بطله الحقيقي، الذي بات يُشبه ما كان يمثّله مارتشيلّو ماسترويانّي لفيدريكو فيلّيني.
سيرفيلّو - ماسترويانّي
وتبدو هذه المقاربة الأكثر دلالة، بالذات في هذا الفيلم، إذ لا يُخفي سورّينتينو كونه أراد محاكاة فيلمي فيلّيني "8 و 1/2" و"دولتشي فيتا"، واللذان مثّلت روما الديكور والمنظر الأساسيين للفيلمين.
ففي حين بنى فيلّيني روماه في استوديو رقم 5 في تشينيتشيتّا، غاص سورّينتينو في المدينة الحقيقة، وأطلق أنشودة غزل تجاهها ومعها. وبالفعل، فإن روما التي تخرج من الفيلم، مختلفة عمّا هي في الواقع، ففيها جمال "البوست كارت" السياحي المنمّق، لكن فيها أيضاً الجمال الباهر لشرفاتها وحدائقها وساحاتها الخالية من البشر.
طبقات مترفة وارستقراطية متهالكة
فيما يقدّم باولو سورّينينو ناس المدينة، وطبقاتها المترفة وارستقراطيتها المتهالكة، مليئين بالرياء والانكسارات والخسارات والأمراض المعضلة التي تقود إلى الموت، ويتعايش فيها خاسرو الحب، والمهزومون سياسياً والقوادون والعواهر، فإنه يقدّم المدينة نفسها فارغة من كل هؤلاء، وحين يجول جيب غامبارديلا في المدينة لوحده أو مع المرأة التي عثر فيها، أخيراً، على قدر من النقاء، تُرى المدينة فارغة تغتسل بهدوء الليل وأضوائه الخافتة، حتى لكأن المخرج يريد أن يهمس في أذن المشاهد، أن أسوأ ما في هذه المدينة هم ساكنوها.
