يعشق عازف العود العراقي نصير شمّة أن يطل من نافذته الوترية على الأشياء، باحثاً عن مناطق جديدة في صفاء الروح يتلمسها بأصابعه ويراها بعينين مغلقتين في ظاهرهما، مفتوحتين في باطنهما على أحلام كثيرة يخفق قلبه إليها فرحاً، بمجرد تحقيقها تصبح مشاهد متكررة ليخلق مستقبلاً لا يقبل فيه غير كل جميل، متجاوزاً ما في الواقع والماضي من قبح وآلام..
"البيان" التقت شمّة في أحد بيوت مصر القديمة المعروف ببيت العود (الهراوي سابقاً)، فقال إنه لايزال ممسكاً بريشته ليضرب بها على عوده أوجاع الشعوب، وأن كل قطعة موسيقية تعبّر عن موضوع إنساني بداخله.. فإلى تفاصيل الحوار:
بمناسبة ما يعصف بالوطن العربي من رياح التغيير، ما المقطوعة الموسيقية التي شعرت حينما قمت بها بأنك تريد القيام بثورة؟
أساساً مشروعي الموسيقي المتواضع قام على مبدأ الثورة، لكنها الثورة التي يتحكم فيها العقل وليس العواطف؛ بمعنى أنني درست الموسيقى الكلاسيكية المتخصصة 6 سنوات وإلى اليوم أدرس، لكن عندما قرّرت أن أغيّر من نمط التفكير السائد عن آلة العود وبمشروع أريد تقديمه للناس كان لابد من عمل ثورة حقيقية، لكن في رأيي أحياناً الثورات التي فيها جهل تنقلب ضد صاحبها، بينما الثورة التي فيها عقل وعلم ودراسة ومعطيات تعطي ديمومة وترسيخ لقيمة الثورة ونجاحها.
رحيل القمر
وأضرب أنموذجاً على تلك الثورة التي حدثت في العود، بمقطوعة موسيقية قدّمتها سنة 1989 بعنوان "رحيل القمر"، ووقتها كان النقاد يقولون لي "ما هذه القطعة الموسيقية" التي ليس لها علاقة بالعود، واليوم بكل الاستفتاءات التي تحدث على الإنترنت يتم اختيارها كأفضل قطعة موسيقية لي، ما أقصده أنني كنت أخطط لهذه الثورة في داخلي دون أن أتكلم عنها، دائماً كانت أحلامي تسبقني وتسبق الوضع الراهن؛ بمعنى أن اللحظة الراهنة دائماً بالنسبة إليّ كانت تموج بفكرة مستقبلية، فما عرفت الراهن ولا الماضي دائماً أعيش بالمستقبل.
هل نفهم من كلامك أن كل مقطوعة موسيقية تقوم بها تعبر عن ثورة بداخلك؟
نعم كل قطعة موسيقية تعبّر عن موضوع إنساني، لكن ليس بالضرورة ثورة وإن كان لها جزء كبير من أعمالي، لكن كانت ثورة بمعناها الجمالي والسياسي والتاريخي بكل معانيها المختلفة؛ مثلاً أول مرة تكلمت عن أوجاع هيروشيما تساءل الكثير: هل انتهت أوجاعنا حتى ننتقل إلى أوجاع هيروشيما، هم يظنون أن أوجاع هيروشيما تنفصل عن أوجاع السودان أو عن أوجاع مصر وسوريا والعراق، لكن الوجع الإنساني لا ينفصل عندما أتحدث عن وجع هيروشيما أشير إلى أنه يجب ألا يتكرر، وكأن قلبي يعلمني أن هذا سيحدث مرة أخرى، وبالفعل حدث بالعراق فقد قذفت العراق بأضعاف قنبلة هيروشيما، كما تم تقدير ذلك، حيث كانت 2000 طائرة في الدقيقة الواحدة تمطر سماء العراق سنة 1991 بوابل من القذائف والصواريخ.. ولو يعلم العالم كله وجع الشعوب ويعطيه حقه من الدراسة فلن يحدث ظلم مثلما حدث في كثير من الدول ومنها العراق.
حدث في العامرية
هل هناك مقطوعة بعينها لنصير شمة شعر فيها أنها ثورته؟
مقطوعة "حدث في العامرية".. وأتذكر أثناء تقديمي لها أن قلت كلمة فهمها الساسة العراقيون ولكنهم تجاوزوها لي لقوة المقطوعة، حيث قلت "أنا بهذه الموسيقى ألعن كل الذين تسببوا في قتل الأطفال". وكان واضحاً من عنيتهم وهم أميركا والحكومة العراقية أيضاً، لكن هناك من فهم ومن لم يفهم، ومن فهم وتجاوزها؛ لأن القطعة كان لها صدى كبيراً..
أيضاً هناك مقطوعات أخرى شعرت فيها بثورتي، منها القطعة التي ألفتها عن فلسطين ولبنان، وكذلك هناك مقطوعة "سلام السودان" وسميتها كذلك على الرغم من أنها ثورة ضد قبح الاختلاف والتجاهل الذي يؤدي إلى عرقلة تقدّم السودان. ومن المقطوعات الحديثة مقطوعة بعنوان "دماء وحرية" عن ثورة مصر، وقد انتهيت منها ضمن أسطوانتي الجديدة، وهي أسطوانة موسيقية كاملة تحتوي على مقطوعات موسيقية عن ثورات تونس ومصر واليمن وليبيا.
أفعالنا الإنسانية
هل كان للأحداث المؤلمة في حياتك جانب كبير في التعبير عن موسيقاك وتفردك فيها؟
جزء كبير من ردود أفعالنا الإنسانية له علاقة بالعاطفة، وتقديمها فيما بعد يتحكم فيه العقل والعلم والدراسة، لكن رد الفعل الأول عاطفي، وأنا تربيت منذ أن كان عمري 6 سنين أن أجمع من مصروفي وأتبرع به كل أسبوع لطفل مثلي في فلسطين أو العراق، وكان ذلك بالنسبة إليّ مصدر سعادة، فجميل أن يتفانى كل إنسان من أجل الغير حتى ولو لم يره لكنه يشعر به عن بُعد.
قلت إن قضيتك الإنسان.. فمن هم الذين إذا فقدتهم شعرت وكأنك فقدت قضيتك؟
الدنيا لا تقف على شيء دائماً ما يظهر البديل، فالمهم الإنسان كقيمة، أن نعرف كيفية تأسيس الفرد، فالفنان، في رأيي، إذا كان لديه تأثير حقيقي بعلمه ومكانته وثقافته يمكن أن يحقق عشرة أضعاف ما يحققه سياسيون كثيرون مجتمعين.
