عقدت لجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة في مصر، مؤخراً، ندوة عن "الدولة المدنية" أداراها أستاذ الفلسفة الإسلامية والمفكر د.حسن حنفي، وشارك فيها أستاذ علم الاجتماع د.أحمد زايد، وأستاذ الفلسفة الإسلامية د.جمال نصّار، وأستاذ الفلسفة بجامعة حلوان د.أنور مغيث.
وتحدّث أستاذ علم الاجتماع أحمد زايد، عن المفهوم الاجتماعي للدولة المدنية، معتبراً أن الدولة المدنية تعرّف بأنها اتحاد من أفراد يعيشون في مجتمع يخضع لنظام من القوانين، مع وجود قضاء يطبق هذه القوانين بإرساء مبادئ العدل. وقال: من الشروط الأساسية لقيام الدولة المدنية ألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر.
فثمة دائماً سلطة عليا ـ هي سلطة الدولة ـ يلجأ إليها الأفراد عندما تنتهك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك. ومن خصائص الدولة المدنية أنها تتأسس على نظام مدني من العلاقات التي تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، والثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة.
قيم المدنية
وأشار زايد إلى أن هذه القيم هي التي تشكل ما يطلق عليه الثقافة المدنية، وهي ثقافة تتأسس على مبدأ الاتفاق؛ أي وجود حد أدنى من القواعد التي تشكل خطوطاً حمراء لا يجب تجاوزها، على رأسها احترام القانون (وهو يشكل القواعد المكتوبة).
وتأتي بعده قواعد عرفية عديدة غير مكتوبة تشكل بنية الحياة اليومية للناس، تحدّد لهم صور التبادل القائم على النظام لا الفوضى، وعلى السلام لا العنف، وعلى العيش المشترك لا العيش الفردي، وعلى القيم الإنسانية العامة لا على القيم الفردية أو النزعات المتطرفة.
ومن ثم فإن الدولة المدنية لا تستقيم إلا بشرط ثالث هو "المواطنة". ويتعلّق هذا الشرط بتعريف الفرد الذي يعيش على أرض هذه الدولة؛ فهذا الفرد لا يُعرف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنما يُعرف تعريفاً قانونياً اجتماعياً بأنه مواطن؛ أي إنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات. وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين.
فإذا كان القانون يؤسس في الدولة المدنية قيمة العدل، وإذا كانت الثقافة المدنية تؤسس فيها قيمة السلام الاجتماعي، فإن المواطنة تؤسس في الدولة المدنية قيمة المساواة. فالمواطنون يتساوون أمام القانون ولكل منهم حقوق وعليهم التزامات تجاه المجتمع الذي يعيشون فيه.
والمواطنون هنا لا يجب أن يعيشوا مواطنين لا مبالين، بل يجب أن يكون جلهم من المواطنين النشطاء الذين يعرفون حقوقهم وواجباتهم جيداً، ويشاركون مشاركة فعالة في تحسين أحوال مجتمعهم بحيث يرقون بمدنيتهم على نحو دائم، ويخلصون إخلاصاً كبيراً لكل ما هو "عام": المصلحة العامة، والملكية العامة، والمبادئ العامة. فهم يحرصون دائماً على كل ما يتصل بالخير العام.
محور الديمقراطية
وأضاف أستاذ علم الاجتماع أن الدولة المدنية لها خصوصية رابعة مهمة وهي الديمقراطية؛ فالديمقراطية هي التي تمنع من أن تؤخذ الدولة غصباً من خلال فرد أو نخبة أو عائلة أو أرستقراطية أو نزعة أيديولوجية. والديمقراطية أيضاً هي وسيلة الدولة المدنية لتحقيق الاتفاق العام والصالح العام للمجتمع، كما أنها وسيلتها للحكم العقلاني الرشيد وتفويض السلطة وانتقالها.
شروط
فيما أكد أستاذ الفلسفة ومؤلف كتاب "الدولة المدنية"، د.أنور مغيث، أن الدولة المدنية لها ثلاثة شروط أساسية، تتمثل في: أولًا: حياد الدولة في الشؤون الدينية، حيث لا يمكن أن تنحاز الدولة المدنية إلى أي طرف من الأطراف بناءً على أسباب دينية.
الشرط الثاني: "المواطنة"، حيث يكون جميع أفراد الدولة مواطنين تحكمهم نفس القوانين، وهذا غير موجود في الشرائع الدينية، والشريعة الإسلامية كمثال، هناك تمييز بين الرجل والمرأة والسيد والعبد.. إلخ، بينما في المجتمع الحديث يجب أن يكون الجميع سواء. أما الشرط الثالث فيتمثل في أن القانون الذي يحكم الدولة هو قانون وضعي يضعه ممثلو الشعب؛ لأن القانون الوضعي قابل للتعديل والتغيير بمرور الزمن وتغير الظروف.
صياغات مفاهيمية
ومن وجهة نظر أخرى، أوضح أستاذ الفلسفة الإسلامية د. جمال نصار، أن مصطلح الدولة الدينية تمت صياغته لإخافة الناس من التيار الإسلامي بشكل عام، رغم أن التعبير باللغة العربية لا يعني سوى الدولة التي تستند لمرجعية الدين، في مقابل الدولة غير الدينية التي لا تستند لمرجعية الدين، وتقوم على الفصل بين الدين والسياسة.
ولكن تم إلحاق تعبير الدولة الدينية بمعنى الدولة الثيوقراطية، التي تقوم على الحكم بالحق الإلهي المطلق، وهذا ما حدث في العصور الوسطى حينما سيطر رجال الكنيسة على مقاليد الأمور، حيث زعم الحاكم أنه يحكم نيابة عن الله، وأنه مفوّض منه.
والدولة الدينية بهذا المعنى لا توجد أصلاً في الإسلام، وهي نموذج غريب على الخبرة التاريخية الإسلامية؛ لذا أصبح مصطلح الدولة الدينية محمّلاً بمعانٍ لا تحتملها اللغة، ولا ترتبط بالمشروع الإسلامي، ولكن تم صياغة هذا المصطلح لتكوين صورة سلبية يتم إلصاقها بالمشروع الإسلامي، حتى يحاصر بمعانٍ سلبية، وتدخل الحركات الإسلامية في دائرة الدفاع عن مشروعها.
وإذا كانت المرجعية الإسلامية للدولة المدنية تثير المخاوف والالتباس بين الرؤية الدينية والسلطة الحاكمة، فإنه لا يوجد تنافر بينهما، فالأصل في السلطتين الدينية والمدنية أنهما يؤديان إلى تحقيق العدل والمساواة، والإسلام لا يُقر الفصل بين الدين والسياسة؛ لأن الإسلام دين ودنيا، وعقيدة الإسلام هي التي تؤكد العدل وعدم الغش، بل إن فصل الدين عن السياسة يحمل ما نعانيه من مشكلات اقتصادية واجتماعية، فعندما فصلنا السياسة عن الدين وعن أخلاقيات المبادئ العامة كانت النتيجة ما حدث الآن من فقر واستغلال وفساد واستبداد وتفاوت بين الناس.
سياقات تاريخية
الدكتور حسن حنفي نبه في مداخلته إلى أن الدولة المدنية مفهومة في السياق الغربي، ولكنها نُقلت إلى اللغة العربية بسياقها التاريخي الأوروبي، رغم أنها تنتمي إلى حضارة ليس لها نفس السياق التاريخي؛ وأكد أن الدولة هي كيان سياسي (مؤسسة) لا دين لها، فالدين يُلحق بالبشر والسكان القاطنين في الدولة وليس الدولة نفسها. والإسلام كما يراه حنفي، ليس ديناً بالمعنى التقليدي، وإنما هو نظام حياة يتطوّر عن طريق الاجتهاد، ومن ثم مفهوم الدولة الدينية في الإسلام هو مفهوم متناقض، على حد قوله.


