قال الناقد والمترجم السوري صبحي حديدي (إن تسمية قصيدة النثر ليست مستقرة تماما، واكتنفت صياغاتها الحيرة والارتباك وانعدام الدقة. المبسطة في أقل تقدير)، جاء ذلك خلال محاضرته المعنونة (قصيدة النثر وإشكالية التعريف الموسوعي: أيّ قواعد؟ أيّ معايير؟) التي ألقاها مساء أول من أمس في مركز سلطان بن زايد للثقافة والإعلام، في أبوظبي. ونوه في مستهلها قائلا: ربما لا آتي بالجديد لكنني سأركب القديم ليكون جديرا بالنقاش، وسأركز على التنظير الغربي لأن شكل قصيدة النثر، بنت الغرب والحداثة، وجاءت مستوردة، وطورناها.

 

تجار قصيدة النثر

وتناول حديدي (قصيدة النثر ومشكلات المشهد العربي) مشيرا إلى أنه يمكن أن نعد تسميات (الشعر المنثور) و(النثر الشعري) و(النثر المشعور) و(النثيرة) و(الخاطرة الشعرية) ولعل التعريف الأبكر والأشد تعاطفا مع قصيدة النثر، في صياغاتها الأولى، جاء سنة 1925 من شاعر يكتب القصيدة العمودية، هو معروف الرصافي، الذي قال: (الشعر المنثور العاري من الوزن والقافية هو شعر بالمعنى الأعم للكلمة. أي هو شعر بمعانيه التي تفعل في النفس بما يفعله الإنشاد المقترن بالنغم والإيقاع، وحبذا لو سمي الشعر المنثور بالشعر الصامت لعدم اقترانه بالغناء والرقص) ، وأكد أن الإشكالية ظلت قائمة، بل أخذت تزداد تفاقما مع ازدياد تجار قصيدة النثر العربية، مقابل الانحسار النسبي في شيوع الأشكال الشعرية الأخرى، وليس هذا بسبب عجز الشاعر العربي عن كتابة قصيدة جديرة بالحياة والخلود، بل بسبب انهيار التعاقد بين الشاعر والقارئ حول تعريف القصيدة.

واكد حديدي أن قصيدة النثر العربية المعاصرة لا تتغير إلا ببطء. إذا تغيّرت. والصورة الشعرية التي باتت تنهض عليها معظم كيمياء قصيدة النثر، لن تكون قادرة طويلا على مواجهة المنافسة الشرسة مع (الصورة) الأخرى التي تقدمها مختلف أنواع الشاشات البصرية.

وأضاف: اللغة الشعرية التي تظل امتياز الشعر عن النثر، هبطت من علٍ بقرار من الشاعر نفسه، ولكنها فشلت في أن تمس شغاف قارئ يعيش هذه اللغة كل يوم، لأنها ببساطة لغته الهامشية والمجانية واليومية.

والمشكلة الثانية كما أوضح حديدي هي أن قصيدة النثر (ديمقراطية) بطبيعة موضوعاتها وشكلها، حليفة الحياة أكثر من الموات ، أما المشكلة الثالثة فهي برأيه: العجز عن توطيد (علم اجتماع) للشكل الشعري، والتنازل عن إدارة منطق تعبيري واضح المعالم بين الأشكال المتواجدة أمام القارئ وفي ساحة القراءة.

 

بين التنظير والقصيدة

قسم حديدي محاضرته إلى ثلاثة أقسام الأول بعنوان التعريف بين النظرية والقصيدة وفيه قال: إن تسمية قصيدة النثر ليست مستقرة، واكتنفت صياغاتها الحيرة والارتباك وانعدام الدقة المبسطة، فإن تعريف قصيدة النثر ينطلق من الإقرار بأن هذا الشكل الشعري ليس ثوريا ومهجنا فحسب، بل إن إشكاليته جمالية وسياسية في آن معا. وهكذا تذهب (موسوعة برنستون الجديدة للشعر والشعريات) في التعريف، إلى سمتين مشكلتين بتسمية قصيدة النثر، وهما اجتماع لفظتين متعارضتين دلاليا هما (قصيدة) و(نثر) وقيام الشكل على تناقض بين جنسين خطابيين.

وأشار: يمضي تعريف موسوعة برنستون الذي كتبته (ماري آن كوز) إلى القول: (ثمة حقل للرؤيا يتم تمثيله هنا، على سبيل المحاكاة أحيانا وبطريقة تصويرية غالبا، فتنكمش العاطفة تحت وطأة الحذف المفاجئ، فتنتهي بالغة العمق وشديدة الكثافة.

ولهذا فإن قصيدة النثر تستهدف معرفة، أو العثور على شيء لا يمكن بلوغه في ظل أعراف الوزن الأكثر تقييدا حسب الفرنسي ميشيل بوجور) ، وأوضح حديدي: النموذج الفرنسي من قصيدة النثر الأوروبية كان هو الرائد عمليا، وظهرت مع مجموعة ألوزيوس برنار (غاسبار الليل) 1842، رغم أنه كتب قصائد نثر قبلها، وصدرت عن مناهضة عميقة لصرامة الفصل بين الأنواع الأدبية في النقد الفرنسي، والنثر، المشعرن بدوره، عند رومانتيكيين من أمثال الفرنسي شاتوبريان والإنكليزي وردزورث، والمزيج المتبادل من النثر والشعر الموزون عند الفرنسيين موريس دو غيران الشاعر وسانت بوف الناقد ، ونوه: أشهر قصائد النثر الفرنسية مجموعة بودلير (سأم باريس) وكانت كتابتها قد ابتدأت سنة 1855، ولم تطبع حتى 1869، حيث يقر بودلير بأسبقية برتران و(غاسبار الليل) في تأسيس هذه الكتابة الشعرية.

النثر شعراً والعكس

استشهد حديدي بمقال الشاعرة والتشكيلية الأميركية المعاصرة سنثيا رايدر، بعنوان هل هناك حقا شعر نثري؟

في جزئه الثاني من المحاضرة والذي جاء بعنوان (كيف يكون النثر شعرا، والعكس) قائلا: تساءلت رايدر ما هي (قواعد كتابته) وردت تبدأ بتبسيط الإشكالية من خلال طرح الأسئلة التالية أي قواعد تتوفر لهم إذا شاؤوا كتابة قصيدة نثر؟ وهل تتوفر هذه القواعد أصلا؟ وهل استقرت أم هي في حال دائمة من التطوير؟ وهل يجوز لنا محاباة أي شاعر يزعم أن ما يكتبه هو قصيدة نثر؟

وكيف سنميز هذا عن ذاك، دون أن نغرق في سذاجة معلنة؟ وأشار حديدي: كان لدى رايدر إجابة أولى، تقوم على تحديد (اختبار) مبدئي لشاعر قصيدة النثر هل جرب أشكال كتابة شعرية أخرى، أم بدأ من هذا الشكل وحده؟

وهل كانت تجاربه في تلك الأشكال ناجحة أم فاشلة؟ الأمر هنا يتجاوز مسألة المراس والدربة، وأخيرا كيف يمكن الدفاع عن قصيدة النثر نقديا إذا، وأمام القارئ؟ وأوضح: تختم رايدر بالقول إنها صارعت طويلا لكي تقترح تعريفا لقصيدة النثر، وقلبت الرأي حتى إنها انساقت مرتين لتصف هذه القصيدة بفن الشعراء الكسالى، لتنتهي إلى القول: هذا فنّ مشروع، وليس شبيها بنثر الخطاب المألوف، وثمة سيولة تعبيرية، وأفكار ليست عشوائية، وصور جميلة، ومعنى وقصد.