منذ سنوات وأنا بصحبة إبداع الشاعر مبارك بن حمد العقيلي، الذي تمكنت بحمد الله أن أقدم للقارئ الكريم شعره في كتابين، صدر الأول منهما عام 1995 وضم الشعر النبطي تحت مسمى "كفاية الغريم عن المدامة والنديم"، وصدر الثاني الذي يضم الشعر الفصيح مؤخراً بداية عام 2011 تحت مسمى "غاية المـــرام لأهــــل الغـــرام".
وقبل سنوات نشرت محاولة للشاعر لنظم المسرحية الشعرية، والتي أسماها "زبدة أخبار الجرائد" نظمها عام 1354هـ، ينقل فيها حواراً متخيلاً بين الدول بعضها البعض وبينها وبين عصبة الأمم.
واليوم أقدم للقارئ الكريم نصّين سرديين، لعلهما يكونان بداية كتابة القصة بالإمارات. حيث إنهما كتبا في 24 شعبان 1323هـ الموافق 23 أكتوبر 1905، وجاء النصان وفق أسلوب الخطابة التي يروي فيها الكاتب مواقف حدثت له أو أمام ناظريه، فاختلط الواقع بالمتخيل، فهو عندما يكتب نصوص أقصوصته أو حكايته يضيف إلى النص شيئاً من الخيال المتصور لما دار، وأحياناً يصف الموقف كما صار، ولكنه يعبّر عنه بأسلوب يقترب جداً من أسلوب المقامات والأمالي، حيث يعتمد الأساليب الاتباعية في التعبير بعبارات مغلفة بالمحسنات البديعية من سجع وجناس وطباق.
أضع النصيــن أمــــام القــارئ ليكتشف فيهما إرهاصات الكتابة القصصية.
ذو الفؤاد المليوع..
ركبنا باسم الله في المركب ليلة أربع وعشرين من شعبان أنا وأصحابي، بعد مضي برهة من الليل وأنا أنظر إلى ما خلق الله في السماء، وأتصور هذه الرموز العجيبة، وإذا بأحد الركاب المسافرين يسألني: مالك لاتنام وما حملك على السفر؟
الجواب مازلت أحزم وأحل، وأحرم وأستحل، وألف وأنشر، وأنظم فانثر، حتى حررت نفسي من عبودية الأشغال، وطرحت عن عاتقي أثقال الأعمال، فجمعت شمل عزمي، وربطت عقدة سفري، ليومي، ولما أن وصل الميل أسرعت إليه كمنحدر السيل، فركبت ورفقتي متن البحر وقد هدا، ووصلناه بعد مضي ساعة من محل الابتدا، فاحتوى علينا قبل احتجاب فتاة النهار بأستار الدّجى، حامدين من جعل لنا مخرجا، وبعد اختيار المحل ووضع الثقل، نزعنا أقبية الخلاف، وتقمصنا موشحات الانصاف، لئلا يطرأ خلاف يحدث بسببه اختلاف، ولما خيّم جيش الظلام كجيش الإمام المعان، وبدت الشهب كرؤوس حرابه في اللمعان، وطلع البدر بينها كعلمه المنصور، في البهجة والعلاء والنور، وأنا أنظر في تلك الأشكال الرمزية، وأتصور ما تحتها من معاني القدرة الإلهية، صنع الله الذي أتقن كل شي، وأقات كل حي، وأدار خمار الكرى على الرفقة كاسه، وفقد كل منهم إحساسه، سمعت ذا فؤاد مليوع، وقلب بحمة عقرب الفراق ملسوع، ينادي ألا أديباً بهذه السفينة ذا طرف، وأريباً مهذباً عليماً بالظرف، يعالج الصب المصاب بعقاقير كلمه، ويرقاه بآيات حكمه.
آه يارب وحدي إلى متى فعطفت عليه حنواً، وتقربت منه دنواً، وسلمت عليه سلام الكرام، فأجاب باحترام، فقلت له: قد أتاك الهنا بالمنى، فقال: من أنت وقيت الأصر والعصر، فقلت له: إني عبدالله مبارك، نجدي، مولدي في هجر، محل إقامتي دبي، وقد اخترتها وأنا صبي، حيث عاذرني كل مارق، وبادرني كل منافق، أيام كان الجوار أميراً، والحق أسيراً، فقال: وحق مزجي الديم، ومفيض النعم، وباعث الرمم بعد العدم.
لأنت العقيلي الذي قلد أجياد الصحف بعقود نظمه ونثره، وسلب الألباب بنفثات سحره في شعره، فأهلاً بك من قادم، وبوركت من منادم، والحمد لله الذي هيأ لي بهذا السفر بك الاجتماع، لأجل الأخذ عنك والاستماع، فقلت: ياذا الهيئة الوسيمة، والأخلاق الكريمة، من أنت كفيت كل عظيمة؟ فقال: أنا سعد ولقبي علم الإسلام وكنيتي أبوخير الله، مرقت من كنى مع من مرق، وتركت العراق بالغرق، وقد اشتد الحرج، وتراخى الفرج، وضعف الأمل، وزادت بالمريض العلل، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم أطــــــرق فتنهد وأبكى فأنشد:
أبـى الدهر إلاّ أن يسلّ حسامه
ويخفر عنــد الأكرمين ذمامه
ويدهم بالدهم الدواهي بني العلا
ويمحو من الدّنيا عناد سلامه
ويخفض بالجهل الكرام تعمداً
ويرفع بالعلم الحديث لثامه
عفاء على الدنيا سئمنـا بها البقـا
وتباً لحرٍّ ليـس يعلى مقامه
ثم سكت وبيده البساط نكت ففهمتها إشارة وتلوتها عبارة، فقلت: أيها المنطيق المصقع والبياني المبدع لقد سلكت الشطط، وحكمت بالغلط، بتعليقك بالزمان الجناية، وللبك له النكاية. وهو بريء منها براءة الذئب، من دم صاحب الجب، وما حملك عليه إلا ذهولك بما يهولك، والجرم جرمنا معاشر العرب، انظر التاريخ الإسلامي ترَ من إهمالنا العجب، ولو تمسكنا بالشريعة الغراء ودافعنا عنها دفاع الكرام واستخرجنا كنوز (ما فرطنا في الكتاب من شيء) (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) عملاً بقوله عز وجل: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات). رأي للدنيا والآخرة (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).
الحقيقة أن هذه السورة جمعت فأوعت ولكن لاحول ولا قوة إلا بالله، وكم في القرآن من آيات أمر بالصناعة التي هي أربح بضاعة، فقد كانت الأمم في أشد الظلمات حتى انفجر بركان الحروب الصليبية والحروب التترية، التي بسببها اتصلت الكتب العربية، إلى البلدان الأجنبية، فقام بها دعاة الإصلاح، فتم لهم الأمر بالنجاح، بها قد نشر الصبح رايته، وانهزم جنود الليل ومحى الله آيته، فأستودعك الله، فقمت عنه وهو بين منحدر في أفكاره ومصعد، ومغور ومنجد، فأيقظت الجماعة لصلاة الفجر، ويهب الله للمصلحين عظيم الأجر.
الفقير والمعمم
بينما أنا سائر في الطريق، لزيارة محب شفيق، كأنه شقيق، رأيت معمماً يسير أمامي وهو ينشد قول الشاعــر:
ولو لم يكن إلاّ الأسنة مركباً
لما وسع المضطر إلا ركوبها
وعند منعطف الطريق فاجأه فقير، فسلّم عليه الفقير، تنح تنح سلامك لك ووالله ما معي شيء أعطيكه.
الفقير: سبحان الله يا شيخ إني لم أسألك شيئاً، وجنابك لم يعط مفاتيح الغيب.
الفقيه: الحق معك لأنك تعلم أني آخذ ولا أعطي، ومنظرك يدلني على عدمك، فلا رجاء لي في شيء منك.
الفقير: يا جناب الفقيه ترضى أن تدنس علمك وعرضك بالتعرض بفضلات الناس، وأنت رجل مثر، وهب أنك غير مثرٍ ألم تكن وسطاً.
الفقيه: يا فضولي إن عيشة الوسطي لا أرضى بها، أتريد أن أكون مثلك طعامي رغيف، وفراشي ليف، وحولي خفيف؟ فوالله لو طعمت العسل، وأكلت مصلي الحمل، ومقلي الدجاج، ونمت على الحرير والديباج، لما كثر منك اللجاج، ولا أوقعتني في الإحراج. واعلم أنني لو لم أقف على أبواب الرؤساء والتجار، وأشهدها بالبراءة من النار، وأتشدق وأغلق وأنافق لم تفتح لي أبواب الخزائن، ولم أكن موضعاً للأماين، وإن العالم الشرعي، قدره غير مرعي، وكل جسد لم يتقمّصه شيطان، لايقربه السلطان.
الفقير: اللهم إني أحمدك على جهلي بالعلوم، والابتعاد عن منطوقها المفهوم، وأسألك السلامة من ملاقاة مثل هذه العمامة.
ثم انصرفا وانصرفت.

