يعتقد عدد كبير من الخبراء الاقتصاديين أن الفساد والمشكلات الداخلية، التي يعاني منها البنك الدولي، لن تمكنه من استمرار عمله خلال العشرة الى العشرين عاما المقبلة الا اذا تم اجراء اصلاحات جذرية، بل وإعادة هيكلة كاملة.

ويضم البنك الدولي في عضويته 188 دولة ويعمل به جيش من الموظفين يصل عدده الى 9 آلاف موظف ومستشار. ويرأس البنك جيم يونج كيم، خلفا لروبرت زوليك. ومن اهم وظائف البنك، التي لا يقوم بها، انقاذ الفقراء. والبنك له سلطات تتجاوز حدود الدول. وبلغت استثماراته في العام الماضي 57 مليار دولار أميركي. ولا تشرف الحكومات التي تموله عليه بشكل فعال.

ونقلت مجلة فوربس عن مصادر داخل البنك الدولي قولهم: إن أوضاع البنك تسوء وتتفاقم مشكلاته، وكشف التدهور مئات المقابلات التي أجريت في السنوات الخمس الماضية مع مسؤولين ومستشارين للبنك، برغم محاولات الاصلاح في البنك التي بدأت قبل عشر سنوات. وقالت تلك المصادر: ليس من المعتقد ان يستطيع رئيس البنك، الذي رشحه الرئيس الاميركي باراك اوباما، ان يحل مشكلات البنك.

إعادة الهيكلة

وقال احد المديرين السابقين في البنك ان الموظفين يديرونه بمعرفتهم والحل الوحيد امام رئيس البنك هو ان يعيد هيكلة نظام البنك من جديد اذا استطاع.

وترى فوربس أن جزءاً من المشكلة فلسفي. حيث إن أحداً من رؤساء البنك السابقين لم يضع رؤية لدوره في القرن الواحد والعشرين. مثلا لا تزال الصين القوة الاقتصادية الهائلة الآن أكبر المستفيدين من قروض البنك، رغم أنها تقرض دولاً اخرى لتنفيذ مشاريع تنموية وتستأسد على البنك بالتهديد بالتحقيق في الفساد الداخلي.

وجزء آخر من المشكلة هيكلي، حيث تفيد التقارير من داخل البنك أنه حتى بعد أن طبق زوليك تجميدا للميزانية، قام بعض الموظفين بالعمل من خلال ميزانية خارجية تتحدى تقليل التكلفة ليكونوا ثروات لأنفسهم او يعززوا مناصبهم داخل البنك. وتقول مصادر ان هناك نحو ملياري دولار لا يعرف اين ذهبت، رغم انه يفترض انها أنفقت على تحديث الحواسيب.

والجزء الاخير من المشكلة ثقافي، حيث يقول من هم داخل وخارج البنك انه مهووس بالمخاطر المرتبطة بالسمعة، لدرجة ان البنك يغطي على كل شيء سلبي يحدث، دون معالجة له.

بداية مثالية

وقالت فوربس: لقد بدأ البنك بأهداف سامية ومثالية، وهي مواجهة مشكلات العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية المدمرة. وتم اعلان انشاء البنك، مع صندوق النقد الدولي في مؤتمر حضره القادة الاقتصاديون الغربيون لإيجاد السبل لتسوية المشكلات الاقتصادية التي يعتقدون انها ادت الى الحرب، وضمان عدم وقوعها مرة اخرى.

وساعد البنك بنجاح على اعادة بناء اوروبا واليابان، ثم تحول الى بقية العالم، خاصة في السبعينيات، تحت قيادة روبرت مكنمارا، الذي اخذ على عاتقه تحقيق هدف القضاء على الفقر في العالم.

وتقوم الدول المانحة بتمويل البنك بمليارات من الدولارات سنويا، كانت توجه الى القضاء على الفقر في انحاء العالم، حسب الهدف المعلن.

اختيار أميركي

وكان البنك يعمل منذ بدايته بقيادة رئيس يختاره رئيس الولايات المتحدة الاميركية، أكبر مساهم في البنك. وتحوز الدول الاعضاء على مقاعد مجلس الادارة الـ25. وكانت عملية التمويل من خلال التبرعات والمنح والقروض معقدة، لكنها في النهاية عبارة عن الحصول على اموال من المانحين، اضافة الى الدخل الذي يولده البنك ذاته من خلال بيع السندات.

وكثيرا ما يتم الخلط بين البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، الذي يعمل على الاستقرار المالي للحكومات، لكن دور البنك الدولي يقتصر على تمويل مشاريع التنمية، مثل بناء السدود والطرق والمدارس، وحتى المزارع السمكية، رغم ان البنك تجاوز تلك الحدود منذ 20 عاما. ويتعامل البنك الدولي مع كل من القطاعين العام والخاص، ومع ارتفاع اعداد المشاريع وحجم التمويل، زاد الاخفاق والفساد، لأنه ليست هناك جهة رقابية.

واختار جورج بوش في عام 2005 بول ولفويتش ليرأس البنك. وجعل الرجل من تطهير البنك مهمته الرئيسية. غير انه وقع في دائرة مفرغة تنتهي الى أن مجلس الادارة يريد ان يحجب عن العالم حقيقة ما يحدث داخل البنك. لكن كل ما استطاع الرجل ان يفعله هو شن حرب على البيروقراطية داخل البنك. لكنه وقع فريسة الثقافة الداخلية ووقع في الاخطاء مما جعله يستقيل في نهاية الامر.

زوليك والأزمات

ثم جاء روبرت زوليك، الذي شغل مناصب مالية واقتصادية عديدة في اميركا. رأس البنك في عام 2007 وهدأ الأمر على الفور، لكنه منح القروض بمستويات قياسية في مواجهة ازمة الغذاء العالمية التي تبعها الازمة المالية، ليساعد الفقراء في العالم على البقاء احياء. وقام زوليك بإصلاح من نوع آخر، بأن جعل نصف المديرين لديه من السيدات. وفوجئ زوليك بان البنك باع قاعدة بياناته التي تسجل 50 عاما مضت.

واستمرت مشكلات البنك في التزايد بلا توقف، وعزز زوليك ميزانية البنك، على خطا من سبقه، حيث رفع عدد من يحققون في قضايا الفساد الداخلي، مما كشف عن اعداد هائلة من الشركات التي تتعامل مع البنك بشكل يشوبه الفساد، ومنها شركات بريطانية والمانية. وتقول مصادر داخلية في البنك ان الفساد لا يزال مستمرا.

فريق تحقيق

في العام الماضي اجري بحث للتحقق من فاعلية مكافحة الفساد. وقال كاتب التقرير نافين جيري شانكر، إن فريق زوليك طلب من فريق التحقيق أن لا يراجعوا هيكل عمل البنك الا بعد ان يدرسوه بالدرجة الكافية ليعرفوا كيف يعمل. ووافق المحققون وركزوا على النتائج النهائية فقط، او جودة عمليات البنك خاصة في الدول التي تعاني من الفساد وضعف الحكومة.

وركز المحققون تركيزا شديدا على مشاريع تنموية معينة وليس بشكل كاف على ميزانيات الدول الفقيرة، التي يصب البنك فيها اموالا بلغت 50 مليار دولار عام 2008، وتتداخل مع دخل تلك الدول وقد لا تستخدم للأهداف التي خصصت لها. تختفي تلك الاموال في جحور ومن المستحيل متابعة خط سيرها.

كان التقرير جريئا وصدم البنك، وبذل فريق زوليك كل ما في وسعهم للتقليل من اهميته.

وقال احد اعضاء الفريق: كانوا في البداية يريدون ان يدفعونا لفحص الدول التي يشعرون أن بها نجاح لمشاريع ممولة من البنك، ثم كانت العينة موضع تساؤل لأن النتائج لم تكن تتفق مع جهود مكافحة الفساد وتحسين الحوكمة في الدول المتلقية. واشار تقرير آخر أعده انيس داني الى جودة عمل البنك، مما يعني فاعلية وتأثير ونتائج المشاريع التي مولها البنك على مدى خمس سنوات، لم تكن على المستوى المطلوب.

ووجد داني محاولات للقضاء على مصدر الرقابة الوحيد داخل البنك، وهو مجموعة مراقبة الجودة. وقد حل زوليك تلك المجموعة في عام 2010 ، واستبدلها بفريق آخر. واعترض كبار المديرين في البنك على تقرير آخر قدم في فبراير العام الجاري، واشار الى نفس النقاط السلبية في تقرير داني.

وتتساءل فوربس: فهل لا يزالون يعتقدون أن البنك الدولي سوف يكون صالحا للعمل، في ظل هذا الاسلوب والمخالفات والفساد، خلال العشرة الى عشرين عاما المقبلة؟

فقدان بوصلة

 

قال ادم ليريك الخبير الاقتصادي، الذي انتقد البنك مرارا وتكرارا، ان البنك فقد بوصلته في اقراض الدول متوسطة الدخل، التي لا تحتاج الى القروض، مثل دول البرازيل والصين والهند وروسيا، ويتجاهل الدول الفقيرة او الافقر في العالم التي تحتاج الى تنفيذ مشاريع تنموية بشدة.

غير أن دراسة قدمها ليريك في عام 2006 كشفت عن خسائر بقيمة 100 مليون دولار الى 500 مليون دولار سنويا للبنك من قروض لا تسدد، رغم أن قسم المحاسبة في البنك رسم صورة وردية لحساباته الختامية. ومن الصعب التصديق أن شيئا تغير او تحسن عقب الأزمة المالية العالمية.