اهتمامات وهموم اللحظة الأميركية الراهنة، كثيرة وضاغطة أكثر من أي وقت مضى. داخلية وخارجية. سياسية واقتصادية، عسكرية وجيواستراتيجية. وكلها حاضرة معاً، يزدحم بها مطبخ القرار كما مطبخ الرأي ومراكز الابحاث في واشنطن. وتزامنها مع موسم انتخابات الرئاسة، جعلها أكثر سخونة وإلحاحاً. الأكثر ثقلاً وخشية من بينها، ولكنها الأقل حظوة نسبياً بالأضواء، هي الأزمة المالية الأوروبية. ترابط القارتين، يجعل الأوضاع الأميركية الاقتصادية والمالية المتعثرة والهشة، مكشوفة أمام الارتدادات السلبية والقاسية لو بدأت تتهاوى حجار الدومينو الأوروبي وخرجت عن السيطرة.

أرقام الانكماش والإخفاقات البنكية الأخيرة، تؤشر إلى سرعة عطب الحالة الاقتصادية الأميركية. أزمة الشريك والحليف الأكبر مع ضعف مناعة هذه الحالة، تهدّد الانتعاش الأميركي الهشّ وقد تطيح بإمكانية إعادة انتخاب اوباما. وإدارة أوباما مرعوبة من هذا الاحتمال الذي أخذ يطل برأسه. خاصة وأن عقدة الديون الأوروبية بدت مؤخراً وكأنها وصلت إلى الحائط المسدود. عملية التعويم المطلوبة لتحاشي انهيار بعض دول منطقة اليورو، ضاعت بين شروط التقشف المرفوضة بحجة أنها قاسية والبعض يقول أنها غير مجدية وبين شروط البدائل الأخف والأسهل غير المقبولة، بزعم أنها غير منصفة.

وأدى رفض الصيغتين إلى مفاقمة المشكلة، بعد محاولات ولقاءات وقمم ووصفات توالت على غير جدوى، منذ ولادتها قبل سنتين ونصف. وفي ضوء هذا الواقع العنيد، بدأت تطرح مخارج أخرى تطول مشروع اليورو في الصميم. مع أنها لا تخلو من المجازفة، حسب العديد من خبراء المال والاقتصاد. إذ قد تؤدي إلى مضاعفات تهدّد بانفراط عقد الوحدة المالية الأوروبية.

كما يقول ويحذر الخبراء وآخرهم كان أولّلي ران، المسؤول الاقتصادي للاتحاد الأوروبي في محاضرة له في هلسنكي قبل أيام. أو على الأقل إضعافها واهتزاز صورتها؛ مع كل الانعكاسات الخطيرة التي يمكن أن يتركها ذلك على الاقتصاد الأوروبي، بما هو الشريك التجاري الثاني بعد كندا لأميركا. بل على الاقتصاد العالمي برمته. لكن بالرغم من ذلك تبدو كفة هذا الاتجاه بدأت ترجح وباتت اليونان على عتبة الخروج من اليورو، وفق معظم التوقعات. ويعتبر هذا مخرج مضطرة واشنطن للتكيف معه، إذا كان لا بدّ منه؛ بقدر ما تتهيّب تبعاته. خاصة إذا امتدت العدوى إلى بلدان أوروبية أخرى واقفة على الحافة، ثم عبرت الأطلسي غرباً.

فقاعة مالية

من البداية في عام 2009، فاحت رائحة فقّاعة مالية يونانية؛ عندما اعترفت الحكومة بأن الأرقام التي تكشفها عن نسبة ديونها إلى حجم الناتج المحلي، كانت مفتعلة. فهي كانت فعلاً، بحدود 160% -- ومرشحة لتبلغ 170% خلال 2012، مع أنه لا يجوز أن يتجاوز 60% حسب ميثاق منطقة اليورو . استحضر ذلك تداعيات الانفلات المالي الذي أدّى إلى انهيار 2008. الأمر الذي أثار المخاوف من أزمة جديدة. لكن كان الاعتقاد الأميركي أنه بإمكان منظومة اليورو تطويقها وتوفير التعويم المطلوب، بصيغة أو بأخرى.

فالمبلغ يزيد قليلاً على 500 مليار دولار مترتبة على اليونان الذي يتراوح ناتجها المحلي السنوي بين 330 و355 مليار دولار حسب إحصاءات صندوق النقد الدولي لعام 2008 . حجم اقتصاد مجموعة اليورو يتجاوز 12,5 تريليون دولار. أقل بحوالي 4 تريليونات من اقتصاد أميركا. وبالتالي، بقدرته تعويم الوضع اليوناني عند الضرورة.

وفعلاً برزت هذه الضرورة في ابريل 2010، عندما هبط تصنيف السندات الحكومية اليونانية في ضوء الديون والعجز إلى مستوى معادلتها بقيمة الخردة. بذلك انسدّ عملياً باب الاقتراض أمام أثينا. لم يعد بإمكانها إصدار وبيع صكوك الخزينة للحصول على السيولة المتعطشة إليها. سارع شركاء اليورو مع صندوق النقد الدولي حينذاك، إلى الانقاذ ولو المشروط. وفروا لها قرضاً بقيمة 110 مليارات يورو. في المقابل، على الحكومة اليونانية الالتزام برنامج تقشف صارم، أثار خضّات داخلية. في 2011 تجددّت الحاجة إلى العون.

قدّم اليورو والصندوق قرضاً آخر ب130 مليار، شرط موافقة اليونان على إعادة هيكلة ديونها بصورة تكفل خفض نسبة المديونية إلى 121% من الناتج المحلي، بحلول 2020. تعذر تركيب حكومة يونانية تنهض بهذه الشروط. وقع البلد بين سندان الديون وشروط التعويم.

عوامل محلية

وفي الواقع تضافرت عدة عوامل محلية ومالية، لتضعه في هذا المأزق. بين 2000 و2007، كانت نسبة النمو في اليونان من أعلى بلدان اليورو، وفق التقارير الموثوقة. بلغت 4,2% . تدفقت عليها الاستثمارات الخارجية بغزارة.

متانة الاقتصاد وانخفاض مردودات سندات الخزينة، دفعا بالحكومة للتمادي في الاقتراض. ساهم في ذلك استشراء الفساد الإداري وطمع المصارف المقرضة المنفلت. تواطأ الاثنان وبعلم كثير من الحكومات الأوروبية لمراكمة جبل الديون اليونانية، المرتفعة أصلاً والتي لم تنقص نسبتها يوماً عن 94% منذ 1994. في أعقاب أزمة 2008 بلغت 120% من الناتج العام. اقتصاد اليونان بخاصة ركنيه الأهم: السياحة والنقل البحري، اصيب كغيره بارتدادات الأزمة. هبطت الإيرادات 15% في 2009 .

مما زاد الطين بلّة. اجتمع التعويم المعطّل مع الركود وانسداد باب الاقتراض لترك الوضع في دوّامة مقفلة، يرى العديد من المحللين ومرجعيات الاقتصاد في واشنطن بأن العناد الألماني ساهم إلى حدّ بعيد في دفعها إلى حافة الهاوية، بإصرارها على خيار التقشف بدلاً من الإنقاذ والتحفيز. أي بدلاً من ضخ سيولة كافية عبر اصدار سندات يوروية مكفولة من ألمانيا وغيرها، لانتشال اليونان من الحفرة التي قد ينجرّ آخرون إليها.

وتقول أنجلا مركل، ان الهروب من شأنه تعريض أوروبا واليورو وأميركا لخطر هزّة أخرى، حسب كثير من أصحاب الاختصاص واهل القرار في واشنطن. إصرار المستشارة على التقشف المطلوب من اليونان وغيرها من الدول الأوروبية المديونة في غير محله، يقول هؤلاء " لأن هذه السياسة ثبت فشلها في المدة الأخيرة. النمو في منطقة اليورو المتقشفة خلال الربع الأول من العام الجاري، كان في حدود الصفر. " تقليص الإنفاق العام في زمن الركود، وصفة لهزيمة الذات ".

كما يقول بول كروغمن الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وأستاذ هذه المادة في جامعة برنستون الأميركية. وكذلك هو إصرار مركل على وجوب " إجراء تغيير في معاهدة منطقة اليورو، قبل تحقيق أي تكامل مالي بين دولها "، غطاء للتهرب أكثر مما هو مطلب له جدارته. أولوية اللحظة الراهنة للإنقاذ وليست لسدّ نواقص الوحدة المالية الأوروبية. وهي كثيرة وتهدّد تماسك المنظومة، كما كشفت الأزمة اليونانية. لكن ليس هذا وقتها. معالجة الأزمة محطة عبور لمعالجة الخلل في المعاهدة. أو على الأقل هي خطوة لا تقبل التأجيل لإنقاذ اليورو، كما يقول الخطاب السائد في واشنطن.

 

أزمة أعمق

 

ثمة من يرى أن الأزمة أعمق وابعد من ذلك. الخطر ليس على اليورو الذي " لم يفت اوان إنقاذه "، على حدّ ما قال تشارلز كوبهن، استاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون بواشنطن. بل الخطر على " الاتحاد الأوروبي وليس دول اليورو فقط الذي قد يكون من المتأخر إنقاذه ". والسبب، أن حالة الركود والبطالة المستشرية في صفوف الجيل الطالع " أدت إلى تآكل الروابط التي تشدّ الاتحاد إلى بعضه وإلى تنامي ظاهرة العداء للمشروع الأوروبي في مجتمعاته، مما عزّز من موقع القوى المشككة في التكامل الأوروبي وأنعش النعرة القومية من جديد ".

الأميركيون لا ينظرون إلى الأزمة عموماً من هذه الزاوية. الشق الأوروبي منها متروك لأصحابه. اهتمام واشنطن بها، محصور أساساً بشظاياها المتوقع أن تضرب الاقتصاد واستطراداً السياسة. وبالتحديد انتخابات الرئاسة. البيانات الرسمية الأخيرة، تشير إلى رخاوة الحالة الاقتصادية الأميركية، التي تتأثر هذه الأيام بأية شبهة أمنية أو مالية؛ خارجية أو داخلية.