عندما يسافر المرء في أنحاء أوروبا لا يلاحظ آثار الأزمة بشكل بارز للعيان، إلا في اليونان، لكن ربما يكون ذلك لأن سياسات التقشف التي تحدثنا عنها جميعاً لم تدخل حيز التنفيذ على نطاق واسع بعد. نعم، فكل الحكومات تتحدث عن التقشف، وبعضها طبقّت بالفعل بعض الإصلاحات وأجرت تعديلات على نصوص القوانين، لا روحها. وإن كانت الأمور تبدو رديئة حالياً، فما علينا سوى الانتظار لنشهد التطبيق الفعلي لسياسات التقشف خلال ما تبقى من العام 2012 و 2013، وعندها سنرى آثار الأزمة بشكل جلي.
الانتخابات في الدنمارك وإسبانيا وفنلندا والمملكة المتحدة في السنوات الماضية كانت مجرد مواقف احتجاجية على الحكومات الحالية، ولم تمثل تفويضاً لشخص معين للقيام بإصلاحات حقيقية. أما الآن، فالانتخابات الفرنسية واليونانية والهولندية فتبدو أنها ستكون لمصلحة أولئك الذين ينكرون الولاء للاتحاد الأوروبي، ولهذا فإننا سنشهد جولة جديدة من احتجاجات الناخبين تحت شعار أن الاتحاد الأوروبي سبب كل مشاكل الدولة. فالناخبون هم ضد السلطات الحالية، لكنهم لا يعرفون ما يريدون فعلاً، وهو أمر لم يتبلور في أذهانهم بوضوح حتى الآن.
والجانب الأبرز في سيرة رئيسة الوزراء البريطانية الأسبق مارغريت تاتشر هو أنها حصلت على ثقة الناخبين وتفويضهم لها، وتصرفت بناء عليهما، فأجرت إصلاحات شاملة حوّلت مسار الأمور وغيّرت حياة الناس. كانت تلك، النقطة التي أشرت إليها في حديثي، ولم أقصد أننا بحاجة الآن إلى سياسات تاتشر، على الرغم من أن وجود امرأة قوية تتمتع بالنفوذ في أوروبا سيكون له أثر إيجابي، وسيساعد على إيجاد التوازن مع القيادة الصارمة لألمانيا.
أدرك بأن ألمانيا تشعر بالتردد في قيادة أوروبا وتتقدم بحذر شديد، حتى وإن كان ذلك يعني تأخراً كبيراً عند كل منعطف، لتتجنب وقوع السيادة الألمانية في شرك المآزق الأوروبية. لكن ذلك ينقلني إلى النقطة التالية: لم تتسم النقاشات بالرتابة والحذر الشديدين، ولماذا نخشى كثيراً عدم الاتفاق؟ فالنقاش والصراحة هي سبيلنا الوحيد للتعامل مع أزمة الديون الضخمة، التي يمكن معالجتها من حيث الجوهر، لكنها تخرج من نطاق السيطرة بالتدريج كلما قمنا بتفعيل المزيد من سياسات التسويف والادعاء مع مرور كل ربع مالي. ولعلنا سنشهد أسوأ مراحل النمو الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي خلال الفصول المالية المقبلة، ومع اشتداد الأزمة وارتفاع الضرائب وصرامة سياسات التقشف فإن الرغبة في الإصلاح الحقيقي وإنهاء حالة "التسويف والادعاء" الحالية ستزداد بشكل كبير، وهو أمر طيب في الحقيقة.
فستنحدر الأحوال بسرعة كبيرة إلى حيث لا يمكن أن تتردى أكثر، وأنا شبه متأكد من أن شخصاً ما في مكان ما في أوروبا، وربما في ألمانيا، سيحصل قبل نهاية العام 2013 على تفويض مطلق من الناخبين، مشابه لما حصلت عليه تاتشر، ليقوم بإحداث تغيير فعلي.
