الخبز الحافي.. سيرة شعب استنزفه المستعمر

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

أنجز الروائيّ المغربي محمد شكري (1935 – 2003) روايته الأولى «الخبز الحافي» عام 1972. وقد اشتهرت عالمياً شهرة كبيرة بعدما ترجمها للإنجليزية الأديب الأميركي المقيم في طنجة بول بولز عام 1973، وإلى الفرنسية من قبل، الأديب المغربي الطاهر بن جلّون بعدما منحها اسمها الذي اشتهرت به.

وذلك قبل أن تعرف عربياً، ومع قرار الرقابة في منعها زادت شهرتها عربياً، منذ طبعتها العربية الأولى عام 1983. فكتبت عنها الكثير من الدراسات عربياً وعالمياً، ودرّست في الجامعات وأعدت عنها رسائل ماجستير ودكتوراه.

العنوان

الخبز الحافي/‏‏‏الحاف، تعبير مستخدم في الأوساط المشارقية دلالة على أنه الوجبة الغذائية التي لا يصحبها أيّ نوع آخر من الطعام سوى الماء، ويبدو أن هذا التعبير مستخدم لدى المغاربة أيضاً مصحوباً بياء، وليس ثمة استعارة سوى دلالته إلى الفقر وسوء الأحوال الاقتصادية، غير أنّه في هذه الرواية سيكون محوراً أساسياً بالنسبة لفقراء طنجة الذين استوطنوها بحثاً عن فرصة لم يجدوها.

وتعبيراً عن عمق مأساة التي عاشها الشعب المغربي تحت وطأة الاحتلال الفرنسي وعنفه وتجاهله لما آلت إليه أحوال الشعب المستنزف حتّى الثمالة، فراح يلوب باحثاً عن اللقمة ولأجلها يتصارع ويمارس عنفه القهري كمن يلجأ للموت هرباً من موت يلاحقه.

العنف

في هذه الرواية، سنعاين سيرة حياة (محمد شكري) وهو طفل لا يتعدى السنوات السبع من عمره، إذ لجأ وأهله إلى طنجة من الريف القبائلي، وقد خابت ظنون العائلة في إيجاد فرصة عمل، مما انعكس على حياتها. فجاع أبناؤها إلى حدّ البحث عن أيّ طعام يؤكل في القمامة.

ومما انعكس أيضاً على سلوك الأب الجاهل العاطل وهو يواجه بكاء طفليه الجائعين بالضرب الشديد إلى درجة الإعياء.. إنها سيرة طفولة تتلاشى براءتها منذ لحظة اصطدامها الأوّل بالبيئة الاجتماعية، وإلى جانبها سنرى المرأة الأمّ الحاضنة مستلبة من حقوقها الدنيا كأم وزوجة، فهي بدورها معنّفة من قبل الزوج لفظياً وجسدياً، فنلتمسها طوال الرواية راضخة ومستسلمة.

نظرتان

وفي هذه الرواية أيضاً، سنرى كم هي الحياة صعبة، لكنّ الأقدار لا ترمي الخبز للجياع وإنما تتركهم يتخبطون في أزقتها وسراديبها، طالما ليس ثمة جهة مسؤولة تنظّم حياتهم وترعاهم، فالاستعمار في هذا المقام نسخة من الأب الجاهل فاقد الحيلة أمام وطأة الحياة القاسية، فيتبلّد إحساسه وتتجلّد عواطفه إلى درجة قتل ابنه الجائع الباكي.

مفارقات

المفارقة في هذه الرواية أن كاتبها صنّفها كـ«سيرة روائية» بمعنى أنه جمع بين الجنسين الأدبيين في صياغة منجزه الإبداعي، وهذا يعني الجمع بين الواقعي والمتخيّل، غير أن أكثر المفارقات أهمية سيرة التشرّد التي دامت نحو 3عقود ولم تنته إلا بتعلّم الكتابة والقراءة والسير بخطى واثقة نحو الكتابة كمطهر لجملة الآثام التي ارتكبها السارد في جاهليته..وإلى ذلك، ستعكس الرواية مفارقة.

إضافية، تتجلّى في كثرة دور البغاء وانتشار الخمور والمخدرات التي ستبدو دائماً في متناول الجميع دونما رقيب أو حسيب، وكأنّما حكومة الاحتلال تتعمّد ذلك لترك الشعب غارقاً في عنفه وموبقاته وجهله.

السينما

حوّلت الرواية عام 2004 إلى فيلم سينمائي، كتبه بصرياً المخرج رشيد بن حاج وبأداء الفنان المغربي سعيد التغماوي ومجموعة ممثلين مغاربة. وهو بدوره ركّز على الحياة البائسة لفقراء طنجة المغربية وصراعهم على اللقمة حتّى لو كانت من المخلفات المنزلية التي يتركها الموسرون الإسبان والفرنسيون في ذلك الزمان القهري.

فضلاً عن امتيازات الذكورة التقليدية ممثلة بالأب المستبد ودفعه لأسرته للتشرّد بحثاً عما يفي بالأود.

طوال الفيلم لم نر من طنجة سوى أحيائها المتعبة شبه المدمّرة وسجونها والقسوة الضارية. وما بين عام 1942 و 1954 اثنا عشر عاماً رصد فيها الكاتب الحياة المهمّشة لأبناء طنجة وما جاورها، غير أن الكاميرا في هذا الفيلم المثير ركّزت على الجسد المنتهك ثقافياً واجتماعياً، سواء من قبل الذكورة أو السلطة الممثلة بالاستعمار.

وإذا جاز التمثيل رمزياً فإنه يمكننا القول إنه جسد المرأة المستلبة الحقوق؛ جسد طنجة المكافحة لأجل الخلاص..جسد الطفولة المعنّفة ضرباً حتّى الموت، والجسد المنتهك.. والمعنّف حتى الموت.

كما في حال موت عبد القادر شكري، أو أولئك الذين خضعوا لاشتراطات المهربين والمغامرة حتّى الموت للحصول على اللقمة، أو في عمل الأطفال الشاق بخمارات السكارى..إلاّ أن الفيلم سيركّز على جانبين أساسيين، أوّلهما الرغبة الكامنة في قتل الأب باعتباره مصدر الشرور التي أحاطت بالأسرة الصغيرة، أو الأبوة العامّة بمستواها البطركي.

ولكنّ البطل سيبدو مغلوباً على الدوام في هذه المعادلة غير المنصفة، فما يبقى له سوى تخيّل عمليّة القتل أو تمنّيها له. وثانيهما البعد الرمزي المعبّر عنه بالمشهديات الجمالية والبصرية، وبخاصة مشهديات العنف التي تستوجب قراءتها في بعدها الدلالي المعبِّر عن كلّ ما تقدّمنا به.

صمود وخلاص

تسافر بنا الرواية والفيلم الخاص بها، إلى مشاهد مؤلمة، كثيرة، إذ سنرى جند الاستعمار ينفّذون مشيئات الآلة الجهنمية بصرامة وعنف، فيلاحقون أبناء الشعب المطالبين بالاستقلال ويرمونهم في أقسى السجون، ومع ذلك سيتمكّن هؤلاء من الصمود، بل محو أمّيتهم فيها والشروع في الخلاص من الشرور كافة، والسير في طريق العلم والإبداع، ونموذجهم محمّد شكري نفسه.

Email