منقذو الآلهة..فلسفة اكتشاف الذات

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يحاول الكاتب والشاعر والفيلسوف والروائي والكاتب المسرحي والمترجم اليوناني نيكوس كازانتزاكيس ( 1883 ـ 1957) في كتابه «منقذو الآلهة»، اكتشاف الذات عبر رؤاه الفلسفية للإنسان، مازجاً بين التشاؤم والبدائية والواقعية.

كان هذا العمل كتابه الأول، حيث بدأ الكتابة فيه سنة 1914 وأنجزه ونشره سنة 1927، ومهد لرؤاه تلك قبل أن يصبها بشكل أوسع لاحقاً في رواياته وكتبه التي زادت على الثلاثين كتاباً.

«نأتي من هاوية مظلمة وننتهي إلى مثيلتها. أما المسافة المضيئة بين الهاويتين فنسميها الحياة». هكذا يبدأ كازانتزاكيس كتابه قبل أن يضيف متعمقاً في الفكرة: «لحظة أن نولد تبدأ رحلة العودة، الانطلاق والعودة في آن، كل لحظة نموت، لهذا جاهر كثيرون أن هدف الحياة هو الموت، وجاهر آخرون أن هدف الحياة الدنيا هو الخلود..

وفي الأجسام الحية الفانية يتصارع هذان التياران، الصاعد نحو التركيب، نحو الحياة، نحو الخلود، والهابط نحو التحلل، نحو المادة، نحو الموت.. فالحياة تبدو وكأنها خارجة على القانون.. لكننا نشعر في أعماقنا أن الحياة هي الأخرى فوضى وفوران لا نهائي للكون».

الواجب الأول

ينطلق كازانتزاكيس، مبدع رواية"زوربا"، نحو توضيح وتقريب رؤاه متحدثاً بضمير الأنا، مقرباً الصورة تحت عنوان الواجب الأول فيقول:«أحدّق في العالم بوضوح وهدوء ثم أقول. كل هذا الذي أراه وأسمعه وأتذوقه وأشمه وألمسه هو من صنع عقلي.

الشمس تصعد وتهبط داخل جمجمتي، من أحد صدغيّ تشرق وفي الأخرى تغيب.. يهتف العقل ـ أنا وحدي الموجود ـ ». ثم يضيف: «لكني أنا العقل أتقدم بصبر وبسالة، هادئاً وسط الدوار، ولكي أتدحرج نحو الهاوية ألتصق بالدوار وأترك آثاراً.. أضع أساساً للفوضى...».

الواجب الثاني

تحت عنوان الواجب الثاني، يتضح عمق القلق والتردد لدى كازانتزاكيس فيقول: «لا أقبل الحدود ولا تسعني الظواهر. إني أختنق! فلتعش هذه المعاناة العميقة الشاقة، هذا الواجب الثاني.. ما قيمة أن أهيمن على الأرض والماء والهواء، وأن أنتصر على الزمان والمكان.. أشتاق إلى شيء واحد هو أن أدرك ما الذي يختبئ خلف الظواهر. ما هو هذا السر الذي ينجبني ثم يقتلني؟

وهل خلف التيار المنساب والمرئي للعالم يختبئ حضور ثابت لا مرئي؟.. إذا كان العقل لا يستطيع وليس من شأنه أن يحاول التقدم خارج حدود بوابة الخروج البطولية اليائسة فهل يستطيع القلب؟ «ويبقى في عمق الفكرة حائراً...؟.. أنا مخلوق مؤقت وضعيف، مصنوع من طين وأحلام لكني أدرك أن في داخلي تصطخب كل قوى الكون.

أريد للحظة واحدة، وقبل أن تحطمني هذه القوى، أن أفتح عينيّ فأراها أمامي. هذا هو هدفي الوحيد في الحياة. أريد أن أجد مبرراً لكي أستمر على قيد الحياة.. بدأت من نقطة مظلمة هي الرحم، وأسير نحو نقطة مظلمة أخرى هي القبر».

الواجب الثالث

في الواجب الثالث يتأرجح كازانتزاكيس بين العقل والقلب فيقول:«العقل يتكيف، يود لو يعبئ سجنه، عرشه بإنجازات عظيمة، وأن ينقش على الجدران مآثر بطولية، ويرسم على السلاسل أجنحة الحرية. القلب لا يتكيف، ثمة أيادٍ تطرق أبواب سجنه من الخارج، وأصوات عشق تتسرب إلى مسامعه عبر الريح، فيستجيب القلب وهو مفعم بالأمل، مفجراً السلاسل.. طوبى لتلك اللحظة».

المسيرة

تحت عنوان المسيرة التي قسمها إلى سلالم، يقول كازانتزاكيس:«تفاجئـُني صيحة قوية تأتي من داخلي ـ النجدة ـ.. مَن الذي يصيح؟.. شخص ما يكافح بداخلك هو الذي يصيح..

في أقصى حالات فرحنا نسمع بداخلنا أحداً يصيح ـ إني أتألم، أريد أن أفرَّ من فرحك، إنني أتميّزُ من الغيظ.. في أقصى حالات يأسنا نسمع بداخلنا أحدا يصيح ـ لستُ يائساً، إني أكافح، أقبع فوق رأسك، أطل من جسدك، أنبثقُ من الأرض، لا تسعني العقول ولا الأسماء ولا الأفعال ـ.. بداخلي شخص يواجه الخطر، رفع يديه صائحاً يستغيثني ـ أنقذني! ـ.. مَن هو؟

أنصبُ له أذني، أضع علامات، أستنشق الهواء ثم أصعد إلى أعلى، أبحث في اتجاه الأعالي، ألهثُ، أبدأ المسيرة السرية الرهيبة».

السلـّم الأول: أنا

وفي السلـّم الأول تحدث بحرارة عن نفسه.. عن الأنا، قائلًا: «أنا لست طيباً، ولست نقياً، ولست مطمئناً. السعادة لا تطاق والشقاء لا يطاق. أنا مليء بهمهمات ذعر وظلام. أتدفق دموعاً ودماءً داخل زريبة لحمي الساخنة هذه».

السلـّم الثاني: السلالة

وفي السلـّم الثاني يتطرق إلى السلالة قائلاً: «واجبك وأنت توسع أناك في هذه اللحظة المؤقتة التي تسير فيها على الأرض، هو أن تـُفلح في أن تعيش المسيرة الخالدة، أن تحيا المرئي واللا مرئي من ذاتك.. سلالتك هي الجسد الأكبر، فهي الماضي والحاضر والمستقبل.. يصيح الموتى بداخلك ـ لا تمت كي لا نموت ـ».

السلـّم الثالث: الإنسانية

وفي السلـّم الثالث يتحدث عن الإنسانية: «أنت لا تتكلم وحدك، ولا تتكلم سلالتك وحدها من خلالك، ففي داخلك تصطخب وتتصايح أجناس لا تـُحصى من البشر، بيض وصفر وسود.. تحرر من السلالة أيضاً. جاهد لكي تحسّ بالإنسان المكافح في كل مكان.. إنه لا يدري من أين أتى؟ وإلى أين سائر؟ لكنه يريد عبر الحب والعمل والقتل أن يسود على الأرض!».

السلـّم الرابع: الأرض

وفي السلـّم الرابع والأخير المعنون «الأرض» يعطي كازانتزاكيس خلاصة رؤيته، يكثفها قائلاً: «أنت لا تصيح، وسلالتك لا تنادي عبر صدرك الفاني، وأجناس البشر من بيض وصفر وسود لا يصيحون وحدهم في جوانح قلبك.

إن الأرض كلها بمياهها وأشجارها، بحيواناتها وبشرها، وبآلهتها تصيح في صدرك.. إنها حيوان يأكل ويتوالد ويتحرك ويتذكر. تجوع الأرض فتأكل بنيها، نباتات وحيوانات وبشراً وأفكاراً.. تطحنهم داخل فكيها المظلمين، وتمرهم عبر جسدها ثم تدلقهم على التراب».

الرؤيا

تحت عنوان الرؤيا، كتب كازانتزاكيس: «الآن ها هي الأرض كلها تتشبث بك وتصير جسداً لك، وتصيح وسط الهاوية ـ كيف أحاصر هذه الرؤيا الرهيبة بالكلمات.. كل كلمة تشبه قارب نجاة، نرقص حولها مسكونين بالقشعريرة...».

الممارسة

وتحت عنوان الممارسة، يقول: «الدرع والشكل الأكثر قوة للنظرية هو الممارسة، الممارسة ليست أن ترى فحسب كيف تقفز الشرارة من جيل إلى آخر، وإنما تقفز وتحترق معها.. الممارسة هي البوابة الكبرى للخلاص، وهي الوسيلة الوحيدة التي تستطيع الإجابة عن أسئلة القلب!».

علاقة الإنسان بالإنسان

يقول كازانتزاكيس، تحت عنوان علاقة الإنسان بالإنسان: «من داخل هذا الطين الإنساني تتدفق أغانٍ ..، وأفكار عظيمة، وحالات عشق جارفة، واندفاع يقظ وغامض بلا بداية وبلا نهاية، وبلا هدف، بل ووراء كل هدف، إن الإنسانية مثل كتلة من الطين، وكتلة الطين هي كل واحد منا».

الإنسان والطبيعة

وتحت عنوان علاقة الإنسان بالطبيعة يردد: «لكل إنسان محيطه الخاص الذي يضم ما يخصه من أشياء وأشجار، من حيوانات وبشر وأفكار، وهو يتحمل واجب إنقاذ هذا المحيط، عليه وحده دون غيره تقع المسؤولية، وإذا لم يتم إنقاذ المحيط، فلا خلاص لصاحبه».

السكينة

كتب كازانتزاكيس ضمن «السكينة»: «إن السلالة والإنسانية والأرض والنظرية والممارسة و..، ما هي سوى أطياف من تراب وعقل، تصلح للقلوب البسيطة التي يدركها الخوف، تصلح للأرواح التي تتلقـّح بالرياح وتعتقد أنها تتوالد».

كُتب على قبره

وفي جزيرة كريت التي ولد فيها كازانتزاكيس، دفن هناك بعد أن أوصى أن توضع على قبره العبارة التالية: «لا أطمع في شيء.. لا أخاف من شيء.. أنا حر».

Email