«بوهيمية» بوتشيني الحب والموهبة يطوّعان قسوة العيش

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

كان المجتمع المخملي الإيطالي على موعد مع لمة فريدة، مساء الأول من فبراير عام 1896 في دار الأوبرا في مدينة تورينو، لمشاهدة العرض العالمي الأول لأوبرا المؤلف الإيطالي ذائع الصيت جاكومو بوتشيني «البوهيمية»، بعد النجاح القومي الذي حققه عرضه الأوبرالي السابق «مانون ليسكو».

إلا أن استقبال الجمهور للأوبرا التي أصبحت فيما بعد من أكثر الأعمال شهرة وتقديراً، كان بارداً. كما أنه لم يلق التعاطف المطلوب من النقاد، حتى إن أحدهم كتب عن الأوبرا: «سطحية فارغة وطفولية».

وكذلك الأمر كان الحظ التعس من نصيب العرض الأول في نيويورك عام 1900، حيث كان النقد شديد القسوة. ولكن بعدها بأعوام قليلة وإلى غاية الوقت الحالي، أصبحت هذه الأوبرا أحد أشهر الأوبرات وأكثرها أداء في دور الأوبرا. وكذا الأكثر مشاهدة من قبل الجمهور.

موسيقي مبدع

ولد بوتشيني عام 1858 في مدينة لوكا الإيطالية لعائلة موسيقية. وقدم أول أوبراته «لا فيلي» سنة 1884، بنجاح، ثم تلاها بأوبرا ناجحة أكثر في 1889 وهي: «إدغار». لكن جاءت شهرته الحقيقة مع أوبرا «مانون ليسكو» عام 1893. أما أوبرا «البوهيمية» التي أصبحت أشهر أعماله بعد عرضها الأول بعشر سنوات، فكانت متواضعة النجاح كما ذكرت في البداية.

نالت أوبرا «توسكا» الكثير من الشهرة والثناء عام 1900. أما «توراندوت» ذائعة الصيت فقدمت عام 1926 بعد وفاة بوتشيني بعامين، حيث أكمل المقطع الأخير منها المؤلف فرانكو ألفانو.

سحر مزيج

اشتهر بوتشيني، رائد المدرسة الواقعية الأوبرالية، بحبه الشديد للأدب الفرنسي وتأثره موسيقياً بمدرسة فاغنر الأوبرالية. وشكل هذا المزيج مع المخزون اللحني الإيطالي، سحراً أوبرالياً جديداً تجتمع فيه جمالية القوة اللحنية ورشاقة الفكر وحريته. كما ظهر التزامه بالاتجاهات الفلسفية لمرحلة ما بعد الرومانسية الذي لعب دوراً في خلق فن جديد في الدراما الغنائية الإيطالية، هي الواقعية في التعبير الموسيقي عن المشاعر الإنسانية.

رواية في لحن

بالنظر إلى الأوبرا «البوهيمية»، كونها عملاً كبيراً، فقد جاءت في أربعة فصول مستقاة من رواية الكاتب الفرنسي هنري ميورجيه «حياة البوهيمين».

إذ حولها جوسيبي جاكوزي ولويجي إيليكي إلى نص مناسب للأوبرا. ومن ثم بث فيها بوتشيني كل روحه وغنائيته الشاعرية الشهيرة. ومسرح أحداثها مدينة باريس في العام 1830 تقريباً. وأبطالها البوهيميون، الفنانون، هم من يعيشون ويدعون إلى التفكير الأدبي أو الفني الحر المطلق غير المقيد بأعراف المجتمع وتقاليده.

الفصل الأول

عليّة على سطح بناء قديم فقير، ترتفع الستارة مع أصوات الأوركسترا الصاخبة، فنجد أنفسنا في غرفة متواضعة على سطح أحد الأبنية الباريسية.

وأبطال العرض البوهيميون الموهوبون المبدعون يبرزون هناك، حيث الكتب والأوراق متناثرة في أرجاء المكان. فنرى مارسيللو يرسم، ورودولفو الشاعر ينظر من النافذة. لكن فجأة يبدؤون التذمر من شدة البرد. فيضع رودولفو مخطوطة روايته في الموقد طلباً للدفء. ويدخل كولين، الفيلسوف، ساخطاً متذمراً.

«الحب من الشمعة الأولى»

يذهب الأصدقاء إلى المقهى، بلا رودولفو. ثم يسمع طرقاً على الباب. إنها ميمي، جارتهم الخياطة. تدخل ميمي وتطلب شمعة تساعدها على البحث عن المفتاح. في الظلمة تتلامس أيدي الشابين ويقعان في الغرام من أول لمسة.

في الحي اللاتيني العريق

تفتتح الأوركسترا المشهد، في الفصل الثاني، بموسيقى احتفالية ترافق التسوق في عيد الميلاد.

ومع صباح باريسي بارد جداً يستهل الفصل الثالث، وتنقل أصوات الأوركسترا برمادية، فقر ومعاناة العمال الذين يبحثون عند بوابة الجحيم عن عمل لتأمين لقمة العيش. تظهر ميمي فتلتقي مارتشيللو الذي يسألها بقلق عن صحتها المتدهورة، إذ تطلب منه من خلال أغنية درامية «مارتشيللو، ساعدني»، أن يتحدث مع رودولفو بشأن غيرته المفرطة عليها، لأنها تجعل حياتهما معاً كارثية. يتناهى إليهما صوت رودولفو. فتختبئ وتحاول سماع حديث الصديقين..

حيث يغني رودولفو بحرقة وألم، شاكياً من أن ميمي مريضة جداً من جراء داء السل.. وأن حياة الفقر التي تعيشها معه تكرس مرضها أكثر، وهو يرى أن خلاصها يكون بالبعد عن حياته البائسة. فيحاول مارتشيللو تهدئته كيلا تسمع ميمي ما يقول، لكن نوبة سعال تكشف عن مخبئها وتكشف أنها سمعت كل الحديث الذي كان يدور.

تسمع ضحكات ميوزيتا فيذهب مارتشيللو غاضباً،ليرى ما إذا كانت حبيبته تغازل أحدهم. وخلالها يدور حوار غنائي مؤثر عن الانفصال بين ميمي وحبيبها. يتفقان نهاية على البقاء معاً حتى يأتي الدفء مع فصل الربيع. وينتهي الفصل الثالث بإحدى أجمل الرباعيات الغنائية التي تناقش صعوبات الحب.

ربيع الفنانين

رودولفو ومارتشيلو يبدوان وهما يحاولان الإنجاز، في رابع فصول العمل، لكن أفكارهما وأحاديثهما تدور حول حبيبة كل منهما، الغائبة. إلا أن مزاج الموسيقي يتغير بدخول شونار وكولين، ومعهما الكثير من الطعام. يسود جو من المرح بسبب الأفكار والألعاب الفكاهية بفعل وجودهما الافتراضي في عشاء عند أغنياء القوم.

تدخل ميوزيتا والحزن على محياها.. تتحدث عن صحة ميمي المتدهورة، والتي لا تلبث أن تدخل ضعيفة خائرة القوى، إذ أنهك السل جسدها الفتي. وتستلقي على الفراش لتستريح. يجثو رودولفو عند قدميها ليخفف عنها. يناقش جميع الأفراد طبيعة ما يمكن أن يبيعه كل منهم لتأمين مال لعلاج ميمي التي تحتضر. ثم يتركون الحبيبين اللذين يغنيان ثنائية رائعة يتذكران فيها زمن حبهما الجميل.

تغفو بعدها ميمي بينما يضع رودولفو معطفه على النافذة حتى يقع الضوء على عينيها. يقترب شونار من ميمي ويعلن للأصدقاء، ما عدا رودولفو، وبخوف، أن ميمي ماتت. لكن رودولفو يرى الهلع على وجوههم فيقترب من السرير ليكتشف أن محبوبته غادرته بلا رجعة إلى العالم الآخر فيرمي بنفسه بيأس على سريرها بينما تلفظ الأوركسترا بحزن آخر أنفاس هذه الأوبرا.

في السينما

1982

استخدمت موسيقى بوتشيني في هذه الرائعة، بشكل كثيف، من قبل صناع السينما، لما تمتلك من شاعرية درامية قريبة جداً من الإنسان. فكل من شاهد فيلم المخرج الألماني فيرنر هيرتزوك «فييتزجيرالدو»، وقع في حبه بسبب دور موسيقى أوبرا «البوهيمية» التي شكلت تماهياً درامياً مدهشاً مع اللوحة السينمائية.

1997

قدم المخرج اليوناني كوستا غافراس الذي يعد أحد أنجح المخرجين في توظيف الموسيقى في السينما، في فيلمه «المدينة المجنونة»، مقتطفات كثيرة من هذه الأوبرا، كرست حالات من القلق والشجن عند شخصيات الفيلم.

1999

ظهرت موسيقى عمل بوتشيني في فيلم «قديسي بوندوك»، للمخرج الأميركي تروي دافي، كمحطة لإيقاظ الروح الإنسانية.

في الفنون الجميلة

1994

تأثر بوتشيني كثيراً بالمدرسة الفرنسية للفنون التشكيلية. وبعد شهرة الأوبرا «البوهيمية» جسد الكثير من الرسامين انطباعاتهم عنها، ومنهم الرسام الألماني أدولف هواينشتاين الذي نقل في لوحته «الحي اللاتيني»، الروح الحرة لذلك الحي من وجهة نظر بوتشيني.

2001

حملت الرسامة البريطانية فرانشيسكا هاورد التي تعشق الألوان اللحنية البوتشيينية، لوحتها، ألوان الحياة البوهيمية المتعطشة للحرية.

Email