اقترب الكاتب الإماراتي، عبد الجليل علي السعد، من شخصية الفنان الراحل جابر جاسم، فرسم ملامحه الفنية والإنسانية، ورحلته في عالم الفن، التي شهدت كثيراً من النجاحات.

فكرة الكتاب، الصادر أخيراً عن سلسلة أعلام من الإمارات، التابعة لمؤسسة العويس الثقافية، بدأت حينما ألقى السعد محاضرة يتحدث فيها عن تاريخ الراحل جابر جاسم، الأمر الذي لقي استحسان الموجودين في القاعة، ليتلقى بعدها اتصالاً من مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، تطلب فيه المؤسسة أن يباشر في تأليف كتاب عن حياة جاسم. وكان السعد وقتها يعكف على تحضير كتاب عن تاريخ الأغنية الشعبية.

ويتطرق المؤلف في حواره مع (بيان الكتب)، إلى أهمية الكتاب، موضحاً آراءه في جملة قضايا إبداعية، بينها أن التراث والمعتقدات الشعبية جوهر ثقافة وفكر أي من الأمم. واستغرق سعيد التحضير للكتاب حوالي عام ونصف العام بين البحث والدخول في أعماق الشخصية والتحدث مع رموز لهم وزنهم في عالم الطرب..

حيث حاول اختيار أسماء عايشت جابر جاسم كشخص وفنان، مثل: الموسيقي والعازف فيصل الساري، الذي جمعته مع جاسم جابر ذكريات جميلة، إذ قدم آخر أغنياته «ضاع فكري شالنظر فيهم»، في الاستوديو الخاص بفيصل الساري قبل وفاته بأسبوع، وآخرين يعتبرون رموزاً فنية مهمة في مجال الأغنية الخليجية.

الصوت الشجي

يرى المؤلف عبد الجليل، أن الفنان جابر جاسم، لم يأخذ حقه من التقدير والاهتمام، فلم يكن هناك أقلام تكتب عن الفنون الشعبية أو الطرب الفردي في ذلك الوقت، لذلك، وجد أنه من الضروري إلقاء الضوء على هذه الشخصية الفنية المهمة، التي أعطت الفن كثيراً، وجعلت الأغنية الإماراتية تدخل كل بيت خليجي..

حيث كان يمتلك حنجرة صافية، وصوتاً شجياً، ومخارج ألفاظ سليمة. ويبين السعد أن جاسم، وفي هذا النهج، صنع لنفسه اسماً، وسار على خطاه العديد من المطربين، فخلال مشواره، قدم الأغنية المحلية بواقع أكثر قرباً للأغنية العربية الرصينة والمتميزة، ووضع صيغة وملامح مدرسة جديدة ومختلفة، تعتمد على الآلات الموسيقية والحديثة والكلمات القصيرة ونجومية الغناء أمام شاشة التلفزيون.

بين جيلين

يشير السعد، من خلال مقارنة بسيطة بين نجوم الماضي والوقت الحالي، إلى العديد من المفارقات، فالراحل جابر جاسم، النموذج الأبرز لنجوم الماضي، لم يلهث وراء الثراء أو المجد المزيف، بل كان يهدف إلى تقديم فن أصيل.

ويقول عبد الجليل: المادة أصبحت هي الشاغل الأساسي للنجوم في عصرنا الحالي، فأول سؤال يطرحه أحدهم حالياً، قبل أن تدعوه إلى حفل أو ندوة: كم من المال ستدفع مقابل حضوري؟ .. الزمن تغير، فالثقافة والسعي وراء العلم أصبح من الماضي.

جيل العظماء

يؤكد السعد أن الاختيار الجيد للأغنية تدهور كثيراً، فالمفردات لم تعد تحمل معاني مثل السابق، فالبعض اتخذ الفن وسيلة لتحقيق الكسب المادي وبأية طريقة كانت، وبذا، تجدهم يقدمون أعمالاً دون المستوى اللائق، فالمصالح المشتركة و«الشليلية»، أصبحت تتحكم، وبصورة كبيرة، في الوسط الفني والإبداعي عامة..

وذلك عكس ما كان ينادي به جابر جاسم، حيث كان يهتم باللحن والكلمات في المقام الأول، فكان يستمع للعديد من الأغاني والقصائد، حتى يختار ما سيقدمه، أما الآن، فيجري التحضير للأغنية التي يرغب المغني في تقديمها كما يحلو له، ومن وجهة نظره.

يشير المؤلف إلى قدرات جاسم الفنية وجوانبه الإنسانية، حيث كان يشجع الفنانين ويأخذ بيدهم. وكان محباً للفن، ويجيد الاختيار العجيب، إذ كان يختار اللحن، في ساعة التسجيل نفسها، وكان دائماً مبتسماً.

ويضيف: كان التواضع إحدى سماته، وكان الفنانون الخليجيون في جميع المناسبات والحفلات يأتون لسماعه، نظراً إلى حبهم له وتقديرهم لفنه، فهذا الصوت الإماراتي الأصيل، لن يأتي للإمارات مثيل له، لأنه حالة نادرة لما كان يملك من أصالة وحس، وأنا أعتبره المثل الأعلى وفنان الإمارات الأول، الذي يجب أن يلقب به، فكان يحرص دوماً على التدريب والتجريب في الألحان والأشكال..

ودعم موهبته الفذة بالدراسة في القاهرة، والتعرف إلى جميع أشكال الموسيقى العربية. ويواصل السعد: لم يبحث جابر جاسم عن الشهرة أو المال أو المجد، فهدفه كان تقديم الفن الراقي، لذلك لم يؤسس شركات إنتاج ولا مشاريع تجارية، ولكنه صنع اسماً فنياً لامعاً في سماء الإمارات والخليج والعالم العربي، ونجح بحق في إيجاد (مدرسة جابر جاسم).

الفنون الشعبية

يشدد مؤلف كتاب (جابر الجاسم.. الخروج من المألوف)، في كتابه، أن الغناء مر بمراحل عديدة منذ نشأته وحتى يومنا هذا، ضمن محطات تاريخية واجتماعية وفنية، حتى وصل إلى ما نراه اليوم، في هذا الخليط الجميل من الفنون الشعبية، مشيراً إلى أن المعتقد الشعبي ثيمة أساسية في تكوين الثقافات الشعبية للأمم والشعوب والجماعات..

وفي السياق، يلفت إلى أنه أكد الباحثون والنقاد الفنيون ارتباط المعتقدات بالفنون الشعبية في مجموعة مواقع وممارسات، أهمها الغناء الفردي والجماعي (الأناشيد)، والموسيقى بأدواتها من طبول وآلات نقرية ووترية وغيرها. ويؤكد السعد هنا أن بداية الأغنية في الإمارات انطلقت بفضل مطربين أسسوا قاعدة لها، شبيهة بانطلاقها في البلدان العربية..

حيث كان الجهد الفردي هو الأرض الخصبة التي تتبناها جهات أو أشخاص، وكانت الإذاعة المتنفس الأول لهذه المواهب الجادة، ثم التسجيل على أسطوانات الغرامافون، وبعدها أشرطة الكاسيت، تلك كانت السبل المتوفرة وقتها، فلم تكن هناك شركات إنتاج بالشكل والصورة التي نراها اليوم في تهافتها على التسجيل والتوزيع.

الهادئ المبدع

الهدوء هو الذي يدفع عبد الجليل إلى الإبداع، فهو لا يفضل الكتابة في الأماكن التي تعج بالزحمة والضوضاء، ووقت الكتابة عنده يبدأ من الساعة الرابعة وحتى الثامنة صباحاً، ليأخذ بعدها فترة من الاستراحة، ويبدأ مرة أخرى من الساعة 6 وحتى 9 مساءً.

وانتهى عبد الجليل أخيراً، من كتابة «معجم تراث الإمارات للأولاد والبنات». وهو مكون من 9 أجزاء، ويضم 5000 صفحة، واستغرق 7 سنوات في كتابته، حيث يتضمن كل شيء يتعلق بالبيئة الإماراتية مع الصور المعبرة.

يلقي الكتاب، الضوء على حياة الفنان الراحل جابر جاسم، ذلك الصوت الإماراتي الأصيل، الذي امتدت رحلته الفنية إلى أكثر من ثلاثين عاماً، ليخلق حالة فنية خاصة، تتناسب مع روح المنطقة، ضمن المفهوم الأصيل للفن والغناء فيها..

حيث امتلك ذكاء فطرياً، فقرر البدء بالأصول القوية للكلمة أو القصيدة، وأخذ معظم أغانيه من كتاب كبار ومعروفين على ساحة الشعر، وعلى رأسهم: المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.

أعلام إماراتية

يأتي الكتاب ضمن سلسلة أعلام من الإمارات، التي أطلقتها مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، في محاولة لإلقاء الضوء على الأعلام الذين أثروا الحياة في الإمارات بشكل عام، والثقافة على وجه الخصوص، فهي سلسلة تضم شخصيات مؤثرة، تركت بصمة في حياتنا، وشكلوا بمجملهم ماضي الإمارات الحضاري، والوجه الآخر للدولة.

ونتبين في فصول الكتاب ومحطات بحثه، أنه لم يكن جاسم، كما يبين الكتاب، يلهث وراء الثراء التجاري، بل كانت فلسفة الأغنية وجمال اللحن، هما حصانا التسابق في الساحة بالنسبة له، ذلك كونه يمتلك شريحة واسعة من المعجبين والمتابعين له في الإمارات.

وفي دول الخليج. إذ إنه عمل على تطوير الأغنية الإماراتية، فكان نجم الحفلات التلفزيونية، بفضل تفاعله ونزعه الحواجز بينه وبين جمهوره، متسلحاً بابتسامته وحركاته المميزة، الأمر الذي أوصله إلى مصاف الأغنية المصورة. كذلك قدم الأغنية الوطنية بنمط خالٍ من القوالب الحماسية الجامدة، بل حولها إلى أغان راقصة ومثيرة للحماس.

قيمة وتميز

لم يسلط الكتاب الضوء فقط على حياة جابر جاسم الفنية، وإنما كذلك على أبرز جوانبه الإنسانية، وتواضعه الشديد وحبه للناس وللحياة، وضحكته التي لم تفارقه، وطموحاته وأحلامه، وصوته الذي وصل إلى أبعد مدى، وموهبته الفذة في عالم الغناء، والتي لم يشهد لها مثيل..

كذلك رصد الكتاب آراء عدد كبير من الأصدقاء ورفاق الفن، الذين عرفوا جابر جاسم عن قرب، فكانت لهم شهاداتهم الخاصة، التي تبين أثره في الآخرين، وأثر الآخرين فيه، من دون رتوش، حيث أشار الملحن الموسيقي إبراهيم جمعة، إلى المجهود الكبير الذي بذله جابر جاسم، لكي يوصل الأغنية الإماراتية لكل بيت خليجي، خصوصاً حين غنى «غزيل فله في دبي لاقاني»، ذلك في الحفل الغنائي الذي صاحب كأس الخليج الثانية في الكويت عام 1972.

يقول الفنان الفان أحمد الجميري، عن جاسم في شهادته بالكتاب: تأثر جاسم بكل تراث الخليج، وليس الإمارات فقط، وصاغ من هذا التراث شخصيته الفنية، حيث كان دقيقاً في انتقاء كلمات أغانيه وألحانه، وكان صوته سليماً لامعاً ورناناً، بعيداً عن الأخطاء والهفوات. أما الشاعر خالد البدور، فيؤكد، من جهته، أنه بفضل جابر جاسم، تمكن من الاستماع إلى الألحان البدوية والقصائد النبطية في إطار حديث ومتطور، حيث نقل أهم أشعار شعراء الإمارات إلى مـــستوى متقدم في الشكل اللحني والنغمي.