يمسك في يد قلماً.. وفي الأخرى ميزان الحرارة. تتدلى من عنقه سماعة الطبيب.. وتحكي ملامحه مدى شغفه بمهنته.. وكيف دفعه ذلك إلى مصافحة الأسرة ومداراة آلامها. وهذا طبعاً، من دون أن يغادر رياض عشقه: الأدب. إذ تجده يتجول تارة بين أسرار البدن.. ويستعير طوراً، جناحي الكلمة والعبارة المؤثرة، لينثر معهما رحيق خلاصات خبرته العلمية التي اكتسبها من الطب.

تلك هي الخلطة الإبداعية المتناغمة في شخصية الدكتور منصور أنور حبيب، استشاري طب الأسرة والصحة المهنية، الذي يحكي في حواره مع (بيان الكتب)، عن دواعي وجدوى مزاوجته بين الحقلين.. وكيف أفلح في أن يقدم مادة أدبية معينها العلوم الطبية والمشاهدات اليومية المستقاة من واقع عمله اليومي، ليفيد بذا زواره/ مرضاه..

ويمتع جمهوره قرائه، مراعياً في الخضم: دقة المعلومة وعدم التهاون في ما يمس سلامة الصحة. كما يؤكد حبيب أنه يهدف في كتابه «باب النجار مخلع»، الصادر أخيرا، توصيل المعلومة العلمية البحتة بأسلوب قصصي سلس رشيق..

وأيضاً، ليذكر نفسه بشكل يومي بضرورة (الاهتمام ببابه)، أي بصحته هو، الطبيب. ويشير إلى أن الأدب أثر وأثرى مهنته بشكل كبير، لافتاً في الصدد إلى أن سلوكيات الأطباء المتناقضة مع نصائحهم، دفعته لاختيار عنوان كتابه، فأبوابهم «مخلعة».

بداية، «باب النجار مخلع».. ماذا عن أبعاد ومعاني عنوان كتابك؟

في عالم الصحة والطب، كبرنا على صورة الطبيب الناصح، الذي يملي علينا نصائحه القيمة، بين ضرورة ممارسة الرياضة والابتعاد عن الوجبات غير المفيدة، إضافة إلى اتباع أسلوب الحياة الصحية. وكنا دائماً ننظر إلى الطبيب تلك النظرة الخاصة المملوءة بالاحترام والتبجيل، ولكن حين كبرت ودخلت مجال الطب وأصبحت طبيباً وعاشرت الأطباء..

لاحظت أننا، كأطباء، ننصح الناس ولكننا لا نلتزم بما نقول. فرغم أن الطبيب ينصح المريض دائماً بتجنب التدخين، إلا أن أكثر المدخنين أطباء، إضافة إلى أن الأطباء عادة ما ينصحون المرضى بممارسة الرياضة. ولكنهم - رغم ذلك - يعانون من نسب السمنة العالية، وكان هذا التناقض الغريب لدى الأطباء، سبب طرحي فكرة «باب النجار مخلع».

آفاق

يضم إصدارك الجديد 40 مقالاً، لماذا قررت تحويل مقالاتك إلى كتاب؟

لفتت نظري السلوكيات الصحية الموجودة في المجتمع الإماراتي، ووجدت في داخلي شغفاً يأخذني نحو المشهد الطبي الصحي العام، وبدأت أكتب مشاهداتي ووجهات نظري على شكل مجموعة من الدردشات والمقالات، إذ أتحدث في كل مقال أو بند من البنود عن مفردة ما في سلوكياتنا الصحية وتعاملنا اليومي مع المحيطين بنا...

وقررت جمعها في كتاب واحد، واخترت 40 مقالاً لتشكل الكتاب، هي عبارة عن خليط بين الجانب التثقيفي والاجتماعي والهزلي، تطرق جانب الثقافة الصحية والسلوك المجتمعي، ما يفتح الآفاق للناس للنظر في ذواتهم وأفعالهم اليومية.

لمن تكتب؟

للصغير قبل الكبير، والكبير قبل الصغير، وكتابي رسالة موجهة لجميع القراء، الذين سيجدون واقعهم اليومي بأسلوب شائق.

مزج

نلمح في كتابك مزجاً واضحاً وجميلاً، بين الأسلوب الأدبي والمعلومة العلمية، إلى أي مدى كان ذلك صعباً؟

ركزت على المزج بين الأسلوب الأدبي والمعلومة الصحية لسبب مهم، يتمثل في أن القارئ يشعر بالملل من الموضوعات العلمية البحتة، ويميل إلى الأسلوب القصصي. وفي إحدى مقالاتي، أتحدث عن المضاد الحيوي بإيجابياته وسلبياته.. ويأتي طرح الموضوع على هيئة حوار بين طبيب ومريض ليشكل ذلك قصة قصيرة، وهذا يقرب الفكرة من القراء، ويجعلهم يربطون بين القصة بواقعهم المُعاش.

هل يمكننا حقاً، وبناء على خلاصات تجربتك في المجال، اعتبار «باب النجار مخلع»؟

نعم، هو كذلك. لاحظت خلال الخمس عشرة سنة الماضية، وأنا أمارس هذه المهنة، مدى قرب طبيب الأسرة من الإنسان، إذ يعايش الطبيب يوميات الأسرة، كبيرها وصغيرها. ويلامس همومهم وهواجسهم عن قرب، ويرى بعينيه كيفية انتقال السلوكيات من فرد إلى آخر في المجتمع.

توليفة

يمتاز أسلوبك بسهولته التي تعزز قدرتك على توصيل المعلومة بشكل جيد. كيف صقلت موهبتك في الكتابة رغم أنك تخصصت في الطب؟

منذ صغري وأنا أعشق القراءة، كبرت مع مجلة (ماجد) التي كنت أنتظرها كل أسبوع على أحر من الجمر، لأخطفها من بين يدي والدي وأنطلق بها إلى غرفتي لالتهامها، وكبرت بعدها رغبتي في قراءة الروايات والقصص والكتب التاريخية والسياسية والمجتمعية. كما كان لدي شغف واهتمام خاص بالأسرة وشؤونها، في مختلف المجالات، كالزواج وتربية الأطفال وغيرها.

وحين دخلت حقل الطب، وُفِّقت في أن أمزج ما بين حصيلة قراءاتي مع المادة العلمية التي اخترتها تخصصاً لي، وحاولت وضعها في توليفة أثمرت عن مقالاتي التي نشرتها في صحيفة «البيان»، ومن ثم إصداري هذا.

إلى أي مدى أثرت كتاباتك الأدبية على مهنتك؟

إلى حد كبير. ومنحني ذلك فرصة لمراجعة نفسي، وسبر أغوار حالة كل مريض باعتباره فرداً متميزاً في هذا الكون. ولأنظر إلى شخصيته وتجربته على أنها الوحيدة والمتميزة..

وأتعامل معه كإنسان وليس كحالة مرضية، وبناء على وضعه النفسي والاجتماعي والصحي، وتأثير ذلك على الطاقة المحيطة بهذا الفرد، وهل هي إيجابية أو سلبية.. قلقة أم بشوشة؟ وهذه الكتابات جعلتني أسلط الضوء على هذه النقاط، ويظهر أثر ذلك في الكتابات التي تظهر احترام وجهة نظر المريض.

نقاط قوة

ما نقاط القوة في هذا الإصدار؟

تكمن قوته في كونه أول تجربة عربية عملت على مزج العلم المتعلق في مجال «طب الأسرة» بالأسلوب القصصي، وهدفي منه ليس القارئ الذي يمتلك العلم والثقافة الغزيرة، بل القارئ البسيط، كالمراهق الذي يبحث عن معلومة بشكل سهل وسلس، وطلاب المراحل الثانوية، الذي يحتارون في اختيار تخصصاتهم، وفي الكتاب ناقشت موضوعات عديدة، متعلقة بحياتنا اليومية، كـ«الانترنت» و«الواي فاي».. وغيرها.

إذا كان «باب النجار مخلع». فما أخبار بابك؟

هذا سؤال جوهري ومحوري، هدفي من كتابي هذا، ومن اختياري لهذا العنوان، تذكير نفسي بشكل يومي بالاهتمام ببابي، وأن آخذ على عاتقي مسؤولية فعل ما أقول، وأن لا يكون ذلك مجرد أقوال بلا أفعال.

«باب النجار مخلع».. السكري أديب والضغط لبيب والقلب عشيق

في «باب النجار مخلع» يُقدّم الكاتب الدكتور منصور أنور حبيب، 40 مقالاً تمثل خلاصة خبرته في مجال طب الأسرة والصحة المهنية، ويستعرض من خلال 167 صفحة، معلومات طبية مهمة بأسلوب أدبي سهل، وحملت المقالات عناوين شيقة، تزيد شغف القارئ بالتعرف على مضمون المقال والإبحار بين سطوره.

في كتابه، ذكر منصور أنور حبيب أنه عندما اختار عالم الطب، لم يكن يدر بخلده أنه سيستطيع تحقيق حلم الطفولة، حلم (البالطو) الأبيض والسماعة الطبية، ليستطيع مساعدة المرضى والتحفيف عنهم. ولم يتوقع أن شغفه بالقراءة سيستمر، لتتوج كتاباته بإصدارات تعرض في المكتبات.

وبحسه الفكاهي، بين أن ما بين عالم الطب وعالم الكتابة، أصبح السكري أديباً، والضغط لبيباً والقلب عشيقاً.

عناوين

وما بين الغلافين، تطل مجموعة من العناوين، منها: «يا طبيب لماذا أخطأت في علاج طفلي»، «مجرم العصر»، «شيخوخة صحية»، «إجازة»، «دموع أنثى»، «مدينة المستقبل»، «هل أنت ذكي».

وفي مقاله الأول بعنوان «لكي أكون طبيباً»، سرد د. منصور حكايته التي بدأت بسؤال يقول «شو حلمك تكون يوم تكبر؟»، لتظهر إجابته الحقيقية بعد سنوات طويلة من التحصيل الدراسي والجامعي، بتحقيقه حلم الطفولة: أن يصبح طبيباً. وفي مقاله تمازجت الأحلام والطموحات مع الانفعالات والمشاعر، وجرعة من المعلومات.

وفي «من المهد إلى اللحد» يجد القارئ نفسه أمام معلومات قيمة حول الأمومة والطفولة، ونقاط مهمة يجب الإلمام بها لتنشئة أسرة سليمة، وسلوكيات نقوم بها من دون النظر إلى عواقبها، ليكون هذا المقال بمثابة درس في تكوين الأسرة والتربية.

ضريبة

ونتبين، بالانتقال إلى «لا أريد التحدث عن السكري» ضمن الكتاب، كماً هائلاً من معلومات لا يعرف الكثيرون عنها شيئاً، وأجمل ما في المقال نهايته، إذ كتب المؤلف: «لا أريد أن أظلم السكري نتيجة لأفعالنا وقراراتنا اليومية وغياب إرادة التغيير، سامحيني يا جزيئة السكر إن قسوت عليك، فلا ذنب لك غير وجودك في زمن العولمة والشهرة وهذه ضريبة الشهرة».

كما ناقش الكاتب خطر السمنة في مقاله «الضيف الثقيل»، ليسلط الضوء على زائر يتسلل إلى أجسامنا بصمت، ليكشر عن أنيابه حاصداً الضحية بعد الأخرى، حتى أصبح وباءً عالمياً، و«بعبعاً» يتسبب في آلام الظهر وتآكل المفاصل، وارتفاع مستوى الدهون في الدم وأمراض القلب والسكري، وصعوبة العثور على ملابس ووظيفة، وغيرها من ألوان معاناة لا تتوقف بسبب هذا الضيف ثقيل الظل.

«فاقد الشيء لا يعطيه»

ويتوقف الزمن في الكتاب، عند صفحة حملت عنوان الكتاب «باب النجار مخلع»، يناقش فيها الكاتب، التناقضات الغريبة التي يعيشها الأطباء، وهو واحد منهم، مشيراً في مقاله، إلى أن الأطباء لا يلتزمون بالنصائح التي يقدمونها للمرضى، ليتنافسوا فيما بينهم في حجم «الكرش»، وفي التدخين.. وغير ذلك من عادات تؤثر على الصحة سلباً.

وقال د. منصور أنور حبيب في مقاله هذا:«فاقد الشيء لا يعطيه»، ويتساءل: كيف للطبيب أن ينصح بمحاربة السمنة وهو لا يستطيع الإحساس بمعنى الرشاقة؟ وكيف له التحدث في الندوات عن مضار التدخين ولديه زاويته الخاصة في «الشيشة اليومية»؟

ولم يتوقف الكتاب عند المقالات الصحية التثقيفية، بل تناول منصور حبيب جوانب الحياة الأخرى، إذ قدم مقالاً عن «واي فاي نعمة أم نقمة؟، و«ضغط العمل، ما له وما عليه»، وغيرها من موضوعات شيقة لا يمكن الإلمام بها إلا باقتناء الكتاب الأزرق الذي تتدلى على غلافه صورة السماعة الطبية بأناقة.