اللافت لقارئ كتاب "تاريخ التعليم التقليدي في مدينة عجمان" للباحث علي محمد المطروشي، التوثيق التفصيلي للحياة اليومية للمجتمع التعليمي، وأشكاله في مجتمع الإمارات منذ مطلع القرن الـ 20 حتى عقد السبعينيات، وذلك من خلال اتخاذ إمارة عجمان نموذجاً، معتمداً المطروشي على المد الثقافي الإنساني في ذلك الوقت. فمثلاً يُقدّم الكتاب لمحةً موسعة لأسماء (المطوعين) و(المطوعات) المعنيين بالتدريس، ضمن نظام مدارس القرآن الكريم للناشئة....
معززاً البحث بكتابة نقدية للإسقاطات السلطوية للتعليم، لتلك المرحلة، كاشفاً صعوبات التوثيق الشفاهي، الذي اتخذ منه ما يقارب الـ 5 سنوات، لإنجاز الكتاب، إلى جانب بحثه الشخصي الذي انطلق في التسعينيات. المطروشي وبكل انتماء للمرحلة، أكد لـ«بيان الكتب» أن التعليم قديماً انعكاس للتنامي الاجتماعي والاقتصادي والروحي، حيث إن للمعرفة الدينية تحديداً، الدورُ النوعيُّ الأبرز..
كما أن "الكتاتيب" أم المدارس وجسر الذاكرة، قائلاً المطروشي حول الكتاب: "كنت أجلس مع الرواة، أراهم يصفون المطوعة، يضحكون بمجرد تذكر أشكال العقاب، ويسترسلون في تمجيد ماضي البر والبحر. في الحقيقة قديماً وجدوا الثقافة عبر الوعي بأشكال كسب العيش".
رواية شفاهية
"ما الذي يجعلنا نتوقف عند لحظة تاريخية، ونعيد قراءتها؟"، هذا هو السؤال الأهم، لإعادة استنباط النتاجات التوثيقية، وبناءً عليه يتكشف الوعي بأهمية كتاب "تاريخ التعليم التقليدي في مدينة عجمان"، وهو فعل الانتقاء والخصوصية، فقد عمد المطروشي إلى تحليل المرحلة التعليمية ونقدها، مؤسساً بحسب المعلومات التي رصدها مشروعاً نحو الكتابة التاريخية الأدبية الإماراتية.
وبالعودة إلى أسباب اختيار إمارة عجمان على وجه الخصوص، اعتبر المطروشي أن الرواية الشفاهية، من أصعب أنواع الرصد التاريخي، وذلك لإلزامية الحضور الشخصي للأفراد، مبيناً أن البحث على مستوى دولة الإمارات، يتطلب شخصاً مختصاً ومعاصراً للمرحلة بشكل نسبي من كل إمارة، إضافة إلى فرق عمل تتكفل بالمتابعة، وكما هو معروف فإن تدوين التاريخ يحتاج في معظم الأحيان إلى تراكم وثقل بحثي متقن.
ثقل إنساني
إرثُ الأسماء والأوصاف للأشخاص العاملين في مجال الكتاتيب قديماً، شكل ثقلاً إنسانياً، لتاريخ المنطقة المحلية، قام الكتاب بإضافتها إلى منجز الحراك الثقافي عموماً، محفزاً البحث الميداني في دولة الإمارات، للمضي قدماً نحو تعميق مسألة التدوين، وإعادة الاهتمام بها مؤسسياً. وهنا تأتي المطوعة (مريامي) نموذجاً تفاعلياً لما سبق، وحولها وثق المطروشي ضمن فقرة "ملامح شخصية المطوعة مريامي" في الكتاب، قائلاً: "أما المطوعة مريامي فيظهر أنها كانت متزوجة قبل مجيئها إلى عجمان، وربما طُلقت أو ترملت، ثم تزوجها في عجمان (ربيع الحاجّة) مولى سالم بن ناصر الغملاسي، ولم تنجب منه".
ملامح «مريامي»
تُعتبر (مريامي) إحدى المطوعات اللاتي عملن ضمن مدرسة أخيها المطوع عسير بن زايد بن فيروز، متمثّلةً بأشهر مدارس القرآن منذ عشرينيات القرن الماضي، ما يجعل المتابع يتساءل: كيف تستطيع المعلومة التاريخية إنجاب قصصٍ إنسانية مليئة بإسهاب شعور الرواة أو راصد الحدث، وذلك بالقدرة على تشكيل شخصيتها وتدوين ملامح شكلها الخارجي..
وحول ذلك كتب المطروشي بتفصيل: "وكانت مريامي أقسى من أخيها وأصرم، ويقال بأنها كانت إذا هّمت بالضرب أغمضت عينيها، ولتقع العصا أينما تقع!" مضيفاً المطروشي في موقع آخر: "ويصفها من رآها بأنها ذات عينين حمراوين، إذا حملقت بهما إلى الصبي وهي غضبى ارتاع وانكمش".
التعليم والاقتصاد المحلي
كيف يمكن لكِتاب يوثق التعليم التقليدي، أن يضفي للقارئ مرتكزاً فكرياً جديداً، خاصةً أن ما استهدفه المطروشي في الكتاب، ليس الجمع، وتأصيل الذاكرة الوطنية فقط، وإنما تأجيج في البحث المعرفي. ويعترف المطروشي بأن الفقر الثقافي واضحٌ في تلك المرحلة، وذلك لمحدودية مصادر التعلم، ودور الجانب الروحي والديني، الذي استمر دعمه من قبل التجار، وحول الأخير، يبرز التنامي الاقتصادي للبعد التعليمي في الماضي..
متمثلاً في عدة أوجه أوضحها المطروشي بنموذج عائلة لوتاه خلال فترة هجرتها إلى عجمان، وقال حول ذلك: "جاء مبدأ التعليم من قبل المطوع أو المطوعة، لكسب الرزق، كأولوية، وتعددت أشكال النشاط الاقتصادي، جراء ذلك، من خلال تأجير بعض ممن يعلمون الكتابة دكاكينهم للتدريس، إضافة إلى قيام المطوعة ببيع الآكلات الشعبية للطلبة". وأوضح المطروشي أن تداعي فرص التعليم خلال أزمة اللؤلؤ، مؤشر استثماري للأهمية الاقتصادية، سواء على مستوى مدرسة الفتح في عجمان، أو مدرسة الأحمدية في دبي.
قيمة أخلاقية
وتنبه كتاب "تاريخ التعليم التقليدي في مدينة عجمان" إلى مفهوم القيمة الأخلاقية في أساليب التعليم التقليدي، من خلال بيان أسلوب (الوقف) أو (التبرع) بالأبنية المدرسية، وقدّم المطروشي المرحوم سعيد بن محمد بوغزيز السويدي، بين عدة أمثلة شاركت في تأسيس لبنة الدعم الأهلي للتعليم، لافتاً المطروشي أن السويدي تبرع لأسرة خلفان بن حميد، بقطعة أرض في الفريج الشرقي، بجوار المقبرة القديمة (معشرة ليوارة) وذلك في أواخر عقد الثلاثينيات..
فبنى خلفان عليها بيته، مخصصاً الجانب الشرقي من البيت للتعليم، ليمثل مدرسة المطوع خلفان بن حميد، ووالدته نافجة بنت عبيد، وتعتبر المدرسة بحسب المطروشي أشهر مدارس الفريج الشرقي وأطولها عمراً، وقد عملت في التعليم ما يقارب 5 عقود ونيف.
الوجه الآخر
بينما حضر الوجه الآخر، وهي أشكال العقاب المستخدمة في التعليم التقليدي، دعمها المطروشي بمجموعة من الصور التوضيحية، وبتفاصيل المسببات لذلك، لافتاً المطروشي أنه سعى إلى توضيح شؤون التربية والتعليم التقليدي لأهمية مراجعتها وبحثها تاريخياً، في محاور منهجية تناولت دواعي العقاب، السلوكيات السيئة، وأخطاء المعلمين. وحول الأخير أوضح المطروشي أن المطوع كان يصاب بالأرق ليلاً، بسبب معاناته من التوتر الناتج عن صراعه مع الطلبة الهاربين مثلاً، أو لأسباب مرضية وغيرها مما يسبب له الخمول لـ(يغفو) أثناء الدوام الرسمي، ما يعرقل العملية التعليمية.
كما ساهمت الهجرة الخارجية والداخلية في تنامي التعليم التقليدي.
فواصل
شكلت بعض المقتطفات التي قدمها الباحث علي المطروشي في كتابه، فواصل مجتمعية ملفتة، مثل بيع المطوعات لآكلات شعبية مثل "الدانقو" و"الباجله" كجزء من التغذية المقدمة للطلبة في ذلك الوقت، خلال أوقات الاستراحة، إضافة إلى مساعدة الطالبات للمطوعة في الأعمال المنزلية، موضحاً المطروشي أنها أمور لم تلق استهجاناً مجتمعياً وقتها.
التجربة الشخصية رافد بحث مهم لرصد أنظمة تاريخ التعليم التقليدي
أثرَت التجربة الشخصية للباحث علي المطروشي المعرفة العميقة بالتعليم التقليدي في عجمان، خاصةً أثناء انضمامه إلى مدرسة خلفان، وهي المدرسة الثانية التي درس فيها بعد المطوعة شيخانة بنت راشد بن تريس، وذلك كما يسرد المطروشي، قبيل التحاقه بمدرسة الراشدية النظامية بأشهر قليلة، موضحاً أن الطلبة والطالبات..
في مدرسة خلفان ونافجة آنذاك كانوا يشغلون معاً فصلاً دراسياً مشتركاً، قائلاً: "كان خلفان يجلس على كرسي قريبٍ من باب الحجرة، والطلبة جلوس بين يديه على الأرض، ويتراوح عددهم بين 20 إلى 30 طالباً، وعندما يحين وقت صلاة العصر كان يقود المطوع خلفان للمسجد أحد تلامذته، ونخرج معه حتى نؤدي الصلاة وراءه".
المنهجية المجتمعية
وركز كتاب " تاريخ التعليم التقليدي في مدينة عجمان" في الحديث عن الأنظمة المختلفة لتاريخ التعليم التقليدي مثل مدارس المطوعات المنفردات، والمدارس ذات المواد الدراسية المتعددة، والتي اقتصرت على تعليم الذكور لأسباب عدة ومنها: أن الأهداف المنوطة بمخرجات هذا النوع من التعليم لا تناسب وضع المرأة في المجتم...
في ذلك الوقت، كون هذه المدارس تتطلب قضاء وقت أطول خارج المدرسة، إلى جانب أن الاختلاط محظور بين الجنسين في ذلك الوقت، حتى ولو ارتبط الهدف بالتعليم. وواجه الكتاب تحديات توثيق بعض الأسماء المشاركين في حراك التعليم التقليدي آنذاك، ومنهم مدرسة المطوعة منية العمياء وأسمها الأصلي كما يطلعنا المطروشي هو آمنة، مبيناً أنه لم يتعرف على اسم والدها ولا لقب عائلتها أو قبيلتها، لقِدم العهد وقلة المعلومات، ومن خلال لقبها (العمياء) يتوصل الكاتب أنها كانت كفيفة، ممثلةً أقدم المطوعات اللائي وصلت أخبارهن.
سيرة
علي محمد المطروشي، من مواليد عجمان عام 1964، تنقل بين 3 مدارس للقرآن الكريم خلال الفترة بين عام 1970 و 1974، تخرج من جامعة الإمارات بقسم التاريخ، وعمل في سلك التعليم معلماً لمادة التاريخ لمرحلة الثانوية العامة. تولى المطروشي إدارة متحف عجمان خلال الفترة من 1993 و 2010، وعُيّن مستشاراً للتراث والتاريخ المحلي بدائرة السياحة في عجمان، وهو مؤلف ومحاضر في الأنساب والتاريخ والتراث الشعبي.
«تحريم»
أوضح الباحث علي المطروشي عبر كتابه" تاريخ التعليم التقليدي في مدينة عجمان" أن أهم أسباب تفشي الأمية في المجتمع المحلي، في ذلك الوقت، هو كراهية تعليم المرأة الكتابة، نظراً لتشدد المجتمع في الحفاظ على الأعراض، وجاء جانب إكراه تعليم الفتاة أو المرأة الكتابة لأسباب أخلاقية، وسبب الاستهجان يعود لاعتقاد أن تعليم المرأة الكتابة سيقودها لمراسلة أحدهم في الخفاء، وكانت بعض الأمهات إذا ما رأت ابنتها تحاول تقليد الكتابة تزجرها أو تضربها على أصابعها.


