قال الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة" (البقرة: 208).

هذه الآية الجامعة تهدم أسس من ينادي بالانتقائية في الأخذ من الإسلام، فتنص بوضوح قطعي الثبوت والدلالة على "وجوب" الأخذ بجميع عرى الإسلام وشرائعه في كل زمان ومكان، وهذا الأخذ هو الذي يشكل الأمانة الضخمة الملقاة على كاهل كل مسلم ومسلمة بالتبليغ والدعوة من جهة، وبالحفاظ والدفاع عن هذا الدين من جهة أخرى.

هذه الأمانة تقتضي من حاملها أن يكون على مستوى المحمول، فالمحمول هو الإسلام ودين التوحيد، والحامل هو المسلم والموحد، وهذا يستتبع ضرورة فهم الحامل للمحمول، وتمثله في شخصه عقائد وأخلاقاً وسلوكاً وعبادة ومعاملة، أي أن الإسلام يريد للمسلم أن يكون صاحب شخصية فذّة.

هذا الكلام يعني فيما يعنيه أن الخالق عز وجل لم يأمرنا على سبيل المثال - بالصلاة كعبادة مجردة منفصلة عن منظومة القيم التي ينبغي وجوبا أن يتحلى بها المصلِّي، فإلى جانب الأمر بالصلاة وهو فعل إيجابي نهى الله تبارك وتعالى عن التجسس والغيبة، فقال سبحانه: "ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم". (الحجرات: 12). والتزامنا بهذا النهي فعل سلبي، وباقتران الفعل التعبدي الإيجابي المأمور بأدائه والآخر السلبي المأمور بالانتهاء عنه تكتمل دارة السلوك الإسلامي لتخلق دورة حياة طاهرة محققة بذلك إحدى أبرز الغايات التي دأب الإسلام على ترسيخها في المجتمع الأرضي.

آية المنافق

وفي واحد من أهم الأحاديث النبوية الشريفة التي ترسم الإطار العام لشخصية المسلم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". هذه الخصال الثلاث كفيلة بهدم كيان الفرد وصولا إلى هدم المجتمع، وهذا الحديث ينطوي على نهي صارخ ومشدد على الاقتراب من هذه العورات الخُلُقُية الثلاث، إذا لا يصح شرعا ولا عقلا ولا منطقا أن يحمل المرء أمانة التوحيد، في الوقت الذي يصدر عنه الكذب أو الخيانة أو الإخلاف في الوعد، فمقتضى حمل الأمانة يتناقض في الأصل مع حمل أي من الصفات الثلاث الخبيثة.

ويقول الله عز وجل محدثا عن صفات المؤمنين التي ينبغي أن يتمتع بها كل متبعٍ لهذا الدين: "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" (الفرقان: 63). والحديث هنا عن المسلم المتواضع المعرض عن السفهاء والجاهلين، وفي موضع آخر يستعرض القرآن صورة أخلاقية وقيمية أصيلة: "والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما" (الفرقان: 72).

وعشرات أُخَرُ من الآيات التي ترسم إطار الشخصية المسلمة. ولكن السؤال الموضوعي: ماذا يعني حشد هذه المنظومة من القيم والمعاني والصفات الأخلاقية والسلوكية في أهم مصادر التشريع الإسلامي؟

شخصية المسلم

الجواب العام هو دعوة القرآنِ الإنسانَ للدخول في عباءة توحيد الله تعالى وإفراده بالعبودية، ثم صياغة شخصيته من الناحية الأخلاقية والسلوكية بما ينسجم مع قوة هذا الدين، ومع سمو الرسالة التي سيحملها. فشخصية المسلم متكاملة من الناحية العقدية والأخلاقية والسلوكية، وتأتي العبادات من صلاة وصيام وزكاة... لتضع الختم العملي على صدق باطن المسلم، ولتؤدي دورين حيويين يتمثل الأول في ربط المسلم بدينه بشكل يومي (الصلاة) وسنوي (زكاة وحج وصيام)، فيما يتمثل الآخر في خلق بيئة اجتماعية صالحة ينعم فيها الأفراد والجماعات ببحبوحة من الأمن والوئام والاحترام، دون أن يعني ذلك المثالية المطلقة الخالية من بعض المطبات المتمثلة بانحراف بعض الأفراد عن الطريق. واللافت أن هذا المجتمع الأخلاقي السليم نفسيا، تحقق واقعا ولسنين طويلة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين، وكذلك في العصرين الأموي والعباسي وإن كان بنسب أقل.

 

 

إسلام وليس صلحاً

 

 

أبدع الإمام القرطبي رحمه الله تعالى - في التعليق على الآية، ومما جاء في كلامه:

كونوا على ملة واحدة، واجتمعوا على الإسلام واثبتوا عليه. فالسلم هنا بمعنى الإسلام، قاله مجاهد، ورواه أبو مالك عن ابن عباس. ومنه قول الشاعر الكندي: دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا أي إلى الإسلام لما ارتدت كندة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع الأشعث بن قيس الكندي، ولأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالدخول في المسالمة التي هي الصلح، وإنما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجنح للسلم إذا جنحوا له، وأما أن يبتدئ بها فلا، قاله الطبري.