الوسطية منهج نابع من روح الإسلام وتعاليمه، فليس تلفيقاً بين رؤيتين، ولا انتقاء من ديانتين، وإنما هو منهج مستقل بذاته، نشأ كاملاً، وولد ناضجاً. وهو معْلم من معالم أمتنا الإسلامية في دينها وفكرها وسلوكها واقتصادها وأسرتها وإنفاقها وأكلها وشربها إلخ. فحيثما توجهتَ وجدتَ هذا المنهج رافعاً شعاره منادياً إلى نفسه بنفسه. فعلى سبيل المثال، تجد النظرية الاقتصادية في الإسلام تتسم بالوسطية النابعة من ذات منهجه، فليست رأسمالية ولا اشتراكية>
وليست تلفيقاً منهما، وإنما هي منهج قائم بذاته، اقتصاد يعترف بملكية الفرد ويفرض الزكاة في مال الغني بنسبة ضئيلة جداً. وفي قضايا الأسرة والنكاح تجده وسطاً، فلا تعدّد مطلقاً ولا منع مطلقاً، فهي قضية فكرية طرفاها ذميمان، لم يرتض الإسلام هذا ولا ذاك؛ لأن (كلا طرفي قصد الأمور ذميم). وكذلك في العبادة تجد الإسلام يدعو إلى الوسطية، فلم يرتض ترك الدنيا مطلقاً بما فيها من مال ونكاح ومعاملة، ولم يرتض التوجه إلى الدنيا مطلقاً، وإنما دعا إلى الأمر الوسط (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص:77].
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم في هديه، يقول: (لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)[البخاري]. و(كَانَتْ صَلاَتُهُ قَصْدًا وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا) [مسلم]. وقل مثل ذلك في الإنفاق فلا إسراف ولا تقتير، وإنما (المنهج الأوسط) هو الأكمل والأصوب (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67].
ولقد جاءت التوجيهات النبوية داعية إلى (المنهج الأوسط) في كل شيء. قال صلى الله عليه وسلم: (القصدَ القصدَ تبلغوا) [البخاري]. وقد ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: (عليكم بالنمط الأوسط، إليه ينزل العالي وإليه يرتفع النازل).
وإن من أهم القضايا الاجتماعية التي ينبغي تطبيق هذا المنهج عليها قضية (الزيارات) الاجتماعية بين العائلات والأصدقاء، فقد اتسمت في كثير من حالاتها بالإفراط أو التفريط، فتجدها لدى بعض الناس متكررة ودائمة ومستمرة، مبتعدين عن التوجيه النبوي لأبي هريرة: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا" [ابن حبان، والبيهقي، وصححه الألباني]، وتجد آخرين قد بلغوا حد القطيعة الأسرية فلا تزاور ولا تواصل غير مدركين الترهيب الرباني منه بقوله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)[محمد:22-23]. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ)[مسلم].
وكذلك أمر (الصداقات), فينبغي تطبيق منهج الوسطية فيها، فلا محبة مفرطة ولا عداوة مفرطة، فعن علي رضي الله عنه،- موقوف عليه وقيل: مرفوع - قال: (أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا)، ولعلنا نجد مظاهر التطرف في (الصداقة) يشيع لدى المراهقين فيشترطون في الصداقات شروطاً ما أنزل الله بها من سلطان، كاشتراط بعضهم عدم كتمان شيء من الأسرار ولو كانت من أسرار الأسرة،
