لا يقاس المرء بشهرته، إن لم تكن الشهرة مبنية على عمل بنّاء، ولا يقاس بحسبه، أو ماله أو قوته، أو جماله، فكل تلك المفردات موازين هامشية قابلة للزوال فجأة. إنما يكون القياس بالعلم والعمل، اللذين يعودان بالنفع على المحيط. هذا الفهم للخيرية ولميزان التفاضل - عند المسلمين - يقرره الله تبارك وتعالى في محكم تنزيله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13). والتقوى هي كما عرفها بعض العلماء: أن تفعل ما أمرك الله عز وجل به، وأن تنتهي عن ما نهاك عنه، وهي بهذا المعنى: عمل وسلوك.

وبهذا المنظور، يكون السوداني قمر الدين فقير عوض أحد الرجال الفاعلين ممن يتركون أثراً طيباً نافعاً في مجتمعهم وبيئتهم، بما يقوم به من عمل خلّاق، وبما يظهره من تفان وإخلاص وصدق في أدائه لعمله.

يثير الرجل الدهشة في نفس كل من يعرفه عن قرب، ويخطف إعجاب المحيطين به من قَدْر البذل والعطاء الذي يقدمه، فالشيخ قمر، الذي يعيش أُولَيات سِنيَّ عقده الخامس، يكتنز في صدره الحكمة والهدى اللذين يفيض بهما القرآن الكريم، ويحمل في قلبه وعلى كاهليه همّ العمل في خدمة كتاب الله تعالى، لدرجة تظهر للناظر أنه روح وهبت نفسها للقرآن، من خلال وصل الليل بالنهار، وعلى مدار أيام الأسبوع السبعة، في تعليم الناس الكتاب وتحفيظهم إياه، في حلقة يقصدها الصغار والكبار من المواطنين والمقيمين.

يقدم قمر الدين فقير صورة ناصعة لما ينبغي أن يتمتع به المسلم في عمله، فهو يدرك قيمة العمل، ويعطيه بعداً إنسانياً وقيَمياً عميقاً، إذ لا يكتفي بمجرد العمل فقط، بل إنه يؤديه على خير وجه، وفي أفضل طريقة، وهدفه في ذلك تحقيق الفائدة القصوى الممكنة لمن يتعامل معهم، وهم - في هذه الحالة - تلاميذه من صغار وكبار يبحثون عن ضم آيات القرآن الكريم إلى صدورهم.

قصَبُ سَبْق

ولأن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه»، فإن الشيخ قمر الدين ـ بحسب ما رأينا وسمعنا ممن يتعاملون معه منذ سنين ـ يحتل قصب سبق في هذا الميدان، ليس لأنه يعلّم الناس القرآن فحسب، وإنما لأنه يتفرد بإنفاق معظم وقته في النهار، وجزء مهم من ليله في هذا العمل، ولأنه يتخفى ويبتعد عن مديح الناس له، ويعمل خلف الأضواء بجد واجتهاد أضعاف ساعات عمله الرسمي دون أجر إضافي. فعلى الرغم من أن مهمته الوظيفية تنحصر في ساعتين ونصف الساعة يومياً لخمسة أيام في الأسبوع، فإنه يتطوع إلى العمل ضعف عدد الساعات اليومية، وعلى مدار أيام الأسبوع السبعة، أي لا راحة أبداً في سبيل تحقيق هدفه كما يقول هو بنفسه: «خدمة كتاب الله، وتعليم الناس القرآن». ومن أجل هذه المهمة يضحي قمر الدين بخير أوقاته في الجلوس الهانئ مع أسرته وعائلته، سواء بعد صلاة المغرب لغاية صلاة العشاء من كل يوم، أو في يومي الجمعة والسبت اللذين يقضيانهم زملاؤه في المهنة في بيوتهم، يضحي بتلك الأوقات ليلتحق بالمسجد مع الصغار.

عندما دخلت عليه المسجد، وجدته يجلس في ركن لوحده يضع أدواته القليلة أمامه من دفتر يجدول فيه إنجازات تلاميذه، وقلم ومسطرة، بينما ينتشر الأطفال في أركان المسجد وهم يتلون القرآن، مصدرين صوتاً كأزيز القُدورِ عند غليانها، يبتغون فضلًا من الله.

أول أسئلتي للشيخ قمر الدين تمحورت حول أسلوب عمله في التحفيظ، فقال: «أجعل الطالب يقرأ القرآن حاضراً كي أضبط له تلاوته، ثم يأتيني في اليوم الثاني يحفظ ما قرأه علي بالأمس، وغالباً أُحفِّظ كل طالب نصف وجه من المصحف الشريف يومياً، ويرتفع الرقم في الصيف ليصبح وجهين يومياً».

سألته إن كان جميع الطلبة من منطقته، فأجاب: «لدي عشرون طالباً في الحلقة الحالية، نصفهم من مناطق بعيدة عن مسجدي نسبياً، والسبب في ذلك أن أولياء أمورهم يفضلون وضعهم عندي، لما يسمعون به من نظام وانضباط وحزم يميز حلقتي.

درء الشبهة!

عندما شرعت في الكتابة عن قمر الدين، كنت منطلقا ـ في هدفي ـ من قيمة العمل الذي ينجزه هذا الرجل الذي يتوارى خلف الأضواء، واللافت أن قمر الدين، ورغم المشقة الكبيرة التي يكابدها من ضبط الأطفال في الحلقة، والسيطرة على مشاكساتهم وحبهم للعب و«الروغان» من الحلقة، وما يستلزمه ذلك من جهد وصرامة وجدية ومتابعة دقيقة لا يقدر عليها إلا من أوتي حظاً من الصبر والجلد، فإن الشيخ قمر عارض أن أكتب عن عمله التطوعي، قائلا: «يا أخي، أنا أعمل لوجه الله تعالى، وأبتغي الأجر منه وحده، وأخاف أن يتسرب إلى قلبي حب الشهرة والرياء، فيضيع علي الأجر».

ولم يوافق إلا على مضض، وذلك بعدما شرحت له فوائد تعريف الناس بتجربته من إشاعة أجواء الحماس والتنافس في العمل، كل في جهته ومكانه، واستدللت على موقفي بقول الله تبارك وتعالى: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون). «المطففين: 26». سألت قمراً: لمَ كل هذا الجهد والجدية و«تعب القلب» مع الأطفال، فيكفيك أن تعلمهم كسائر المعلمين، ثم تقضي بقية وقتك مع أسرتك؟ فأجابني: «حديث النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه»، ثم ان هذا العلم أشرف العلوم، فينبغي أن يتعلمه الصغير والكبير بشكل صحيح، وهذا العمل أحتسبه عند الله تعالى كصدقة جارية، ولذلك أشدد على أن أتقنه، وأؤديه على خير وجه، راجياً من الله القبول». وتابع: «لذلك دائماً ما أقول للتلاميذ، بعد أن أكون قد استنفدت كل وسائل التعامل معهم، من لا يريد الحفظ والإتقان، فلا يأتي إلى الحلقة، لأنني أبحث عن من يريد أن يستفيد، لا عن من يريد أن يمضي وقتاً للقراءة العابرة، دون أن يثمر عمله شيئاً».

فوائد

يثني على الشيخ قمر جميع تلاميذه، ورغم بعض الشدة والحزم في تعامله معهم، فإنهم يظهرون حباً واحتراماً كبيراً له، كعيسى عبد الكريم مراد، أحد الفتيان الذين أتموا حفظ القرآن على يدي الشيخ قمر الدين، الذي يقول: والداي كانا السبب في إقبالي على كتاب الله حفظاً وتعلماً، وقد حفظت القرآن في ثماني سنين، وبعد إتمامي للحفظ، اتجهت إلى القراءات، ويتابع: آتي إلى الحلقة كي أثبت حفظي، وكي أواصل تعلمي عند الشيخ قمر الدين الذي يعود الفضل ـ بعد الله ـ له في إتمام عملية الحفظ، ولا أزال أستذكر الأوقات التي كان يقضيها معنا، وكيف كان يترك بيته وأسرته يومي الجمعة والسبت ليعلمنا القرآن.

 ولأن والدي يعرف الشيخ وطريقة عمله وحزمه، فقد أراد لأشقائي الآخرين أن يتعلموا القرآن على يديه، لذلك فنحن الأربعة درسنا عنده، وأحد أشقائي في الجامعة الآن حفظ عشرين جزءاً مع الشيخ قمر، وتوقف اضطرارياً لدخوله الجامعة. وبابتسامة بريئة، يعدد عيسى الحسنات الدنيوية التي جناها من حفظه للقرآن، فيقول: يتمثل الصواب أمامي في كثير من أعمالي، وتطورت قدراتي الذهنية بشكل لاحظته في دراستي، وفي كل نواحي حياتي. أما عبد الله شاهين البلوشي، فقد حفظ القرآن في عشر سنين.

وقال: بعد أن أتممت حفظي، فرح الشيخ قمر كثيراً، وهنأني ثم أوصاني بمواصلة العلم، طالباً مني الاتجاه إلى علم القراءات. وأرجع البلوشي كثيراً من الفضل إلى والده الذي شجعه على سلوك درب القرآن، وكذلك إلى شيخه قمر الدين الذي وصفه بأنه «منَظَّم جداً، ويرشدنا بالنصح والتوجيه كثيراً، ويأتي بنا في أوقات الإجازة، حيث الناس جلوس في بيوتهم».

خادم القرآن

 

قمر الدين فقير عوض، يعمل في خدمة القرآن ليل نهار، دون أن يكلّ أو يملّ، جاء إلى الإمارات من بلده السودان عام 2001. يبلغ من العمر 43 عاماً، ويعمل إماماً لمسجد صلاح الدين الأيوبي في منطقة كلباء، وهو سليل أسرة تمتهن تعليم القرآن الكريم بدءاً من الجد، مروراً بالأب، وانتهاء به وبشقيقه. ولدى قمر الدين أربعة أشقاء يحفظون القرآن، تفرغ أحدهم للعمل مع والده في حلقة تحفيظ داخل السودان والتي يسمونها «الخلوة». ويجد قمر الدين متعة لا تعدلها متعة في مهنته التي يمارسها كعمل تعبدي، فضلًا عن رغبة يسبقها هدف. ولا ينسى الشيخ قمر أن يسند الفضل ـ بعد الله تعالى ـ إلى مؤسسة القرآن الكريم والسنة، قائلًا: أسأل الله العظيم أن يجزيهم خير الجزاء على ما يقومون به من عمل في خدمة كتاب الله.

لأنهم يظهرون اهتماماً في السهر على كل ما من شأنه خدمة القرآن الكريم.

 

حمدون المشاغب

خلال فترة عمله التي تمتد سنوات، واجه الشيخ قمر الدين مواقف صعبة كثيرة وهو يتعامل مع التلاميذ، تخللتها مواقف طريفة مع أطفال اتسمت طبيعتهم بالشغب والحركية، ومن أولئك «المشاغبين» التلميذ علي محمد حمدون الذي كاد «يُنبتُ» الشيب في رأسه شيخه لفرط نشاطه الحركي. يقول الشيخ: علي تلميذ مشاغب جداً، ولا يبالي، ولكنني ـ مع ذلك ـ احتفظت به في الحلقة لأنه يتميز بخاصية الخوف من العقاب، وبالتالي ينضبط. ويضيف: تلقى علي حمدون مني سائر أنواع العقوبات مثل ما لم ينله أحد قبله، بسبب تقصيره بواجبه الوظيفي. وقد عمدت إلى إحضاره في أيام الإجازة، وبما أنه يحب اللعب كثيراً، فقد كان هذا الأسلوب عقابياً تربوياً ناجعاً.