قال تعالى: "يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنَ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ". (لقمان: 17).
الآية الكريمة نموذج حيّ وباق لما ينبغي على الأبوين، وخاصة الوالد، أن يفعلانه تجاه ابنهما. فالآية تمثل قاعدة تربوية عريضة، تعكس نظرة الإسلام لماهية العلاقة بين الآباء وأبنائهم. علاقة قائمة على التوجيه والتلقين والتأديب والتربية المبنية على قواعد وأصول شرعية. فالإسلام لم يترك جانبا يتصل بحياة الأفراد إلا وعالجه، سواء كانت هذه المعالجة بخطوط عريضة عامة يترك التفصيل فيها لأولي الاختصاص والمعنيين، أو بالتركيز على التفاصيل.
والقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يفيضان بالدعوة إلى التربية، ومن أهم وجوه هذه التربية العقيدة، العبادات، ثم تأتي اللواحق من أخلاق ورقائق وغيرها.
يوجهنا الله سبحانه وتعالى، ونحن نتلو كتابه، ونتدبره وهو الأهم إلى أن نزرع في نفوس الأبناء ما يعينهم على النجاة بدنياهم وآخرتهم، بحضّه سبحانه إيانا على تربية الأبناء بما ينفعهم، ويكون عوناً لهم على تحقيق غاية الله تعالى من خلقنا.
ولكن، أي نمط من تربية؟
الإجابة عن هذا السؤال كامنة في طيّات السياق القرآني، والمفردات التي وردت في الخطاب الموجه من الأب وهو لقمان إلى ابنه، فالأب الحكيم العطوف الرؤوف يخاطب ابنه بعبارة لطيفة رقيقة، تفيض بالحنو والرأفة، قائلا له: "يا بنيّ"، وهذا الأدب التربوي في التخاطب كفيل بتمهيد النفس البشرية وتعبيدها لتكون مهيأة لامتصاص التوجيهات والإرشادات، كما أنه كفيل في الوقت ذاته بنقل هذه الآداب إلى الأبناء كي يستفيدوا منها في حياتهم الأسرية التي ستتكون لاحقا.
إذن، الحديث هنا عن الأسلوب في التخاطب والتعامل من أعلى (الأب) إلى أسفل (الابن)، فالله تبارك وتعالى يرشدنا في سياق الآية الكريمة لا إلى التربية فحسب، بل إلى حسن التربية، وحسن انتقاء الأسلوب والألفاظ. فنحن مأمورون بتربية أبنائنا، وبحسن الأسلوب في التعامل معهم، كي تؤتي هذه التربية الثمار المرجوة.
توجيه نبوي
وفي الحديث الشريف، يحضنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تربية أبنائنا على العبادات منذ الصغر، وعمودها الفقري: الصلاة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم - "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع". (سنن أبي داود). وهذا أمر نبوي واضح بوجوب تربية الوالدين لأبنائهما على سائر العبادات وفي مقدمتها الصلاة تربية تحقق في شكل من أشكالها معاني برِّ الآباء لأبنائهم، وتفيض على المجتمع بشباب صالح يرفع فيه سيرة البناء، بدلاً من معول الهدم.
وقد نقل الإمام القرطبي رحمه الله تعالى - في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن: "من حقيقة الإيمان الصبر على المكاره". وهذا المعنى متضمنٌ تماما في نص الآية الكريمة، ذلك أن لقمان لم يكتف بتربية ابنه على العبادة، بل ذهب إلى الحد الأقصى في التربية، بأن أمره بالصبر على ما أصابه من أذى الناس في حالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا أقصى درجات التربية التي ينبغي علينا كمسلمين أن نفهمها اليوم ونحن نسير في حياتنا غافلين عن شعيرة التربية التي أمرنا الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فالتربية عندنا في العصر الحالي إلا من رحم ربي أن ننجب الأطفال، ثم نؤمن لهم لقمة الخبز، ثم ندخلهم المدارس الأجنبية الراقية، أما مسائل التربية والتزكية والتلقين والتفهيم، فهذا مما لا يندرج في اهتماما كثير من المسلمين. وبالتالي فقد غابت شعيرة التربية عند أولياء أمور الشباب المسلم، فكانت النتيجة تصدُّعات بيّنة في بنية المجتمعات المسلمة الأخلاقية، تصدعات تعكس حجم البون الواسع بين المسلم، وبين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وآمن به وطبقه وحققه في نفسه جميع الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
تأويل الطبري:
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره للآية الكريمة:
القول في تأويل قوله تعالى: {يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور}، يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل لقمان لابنه {يا بني أقم الصلاة} بحدودها، {وأمر بالمعروف} يقول: وأمر الناس بطاعة الله، واتباع أمره، {وانه عن المنكر} يقول: وانه الناس عن معاصي الله ومواقعة محارمه، {واصبر على ما أصابك} يقول: واصبر على ما أصابك من الناس في ذات الله إذا أنت أمرتهم بالمعروف، ونهيتهم عن المنكر، ولا يصدنك عن ذلك ما نالك منهم، {إن ذلك من عزم الأمور} يقول: إن ذلك مما أمر الله به من الأمور عزما منه. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
