قال الله تبارك وتعالى:
"قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ". (البقرة: 38)
السعادة والأمن أكبر وأهم مطالب بني البشر، ولكنهما عند المسلمين مرتبطان ارتباطا عضويا ومعنويا لا فكاك فيه بين الدنيا والآخرة.
فالسعادة عند المسلم لا تقوم على أساس تلبية الحاجة المادية من شهوات ورغبات وأموال ومتع حسية توفر سعادة في الدنيا ينال من خلالها مبتغاه، بل هذا جزء من السعادة، والجزء الأكبر يكمن في تلك الناحية المعنوية القائمة على الهدى والتقى والعفاف والغنى في النفس. تلك "المغانم" التي تستقر السعادة بموجبها في نفس المسلم، السعادة التي يكتسبها باتباع هدى الله تبارك وتعالى، القائمة على فعل ما أمر الله سبحانه به عباده أن يفعلوه وهو في كل صوره خير وفلاح لهم - وعلى ترك والامتناع واجتناب ما نهى الله عز وجل عنه، عندها فقط تتحقق السعادة الكاملة التامة الدائمة الخالدة، ولو تخلّل هذه السعادة بعض المطبات أو الابتلاءات، فإن السعادة والأمن الداخلي تبقى ملازمة لنفس المسلم.
عمق روحي
وسبب استمرار ملازمة السعادة والشعور بالأمن للمؤمن أن ذلكما الشعورين ليسا قائمين على مكاسب دنيوية يتعزز حضورهما بوجود تلك المكاسب، ويزولان بزوالها، وإنما هو شعور بالأمن والرضا والسعادة قائم في النفس، يعيش في الصدر، يكسب المؤمن ثباتا عجيبا في مواجهة أي ابتلاء عارض في الدنيا، شعور نابع من عمق روحي يدفعه إلى الاعتقاد الجازم بأنه في معية الله تعالى، وبأنه لا خوف عليه ولا هو يحزن، وذلك بنص الوعد الرباني في الآية القرآنية الكريمة.
أمن الآخرة
وعدم الخوف هنا المقصود به عدم الخوف في يوم الحساب، فالخوف كما قرر علماء اللغة لا يكون إلا للمستقبل، والمستقبل هو يوم الحساب، فلا خوف على هذا المؤمن المتبع لهدى الله تعالى يوم القيامة. وأما الحُزْن فيكون للماضي من مثل: حَزِن الرجل لفقد صاحبه، ومعناه أن المؤمن لن يحزن على ما فاته من أمر الدنيا.
وسواء كان الهُدى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، أم القرآن الكريم بحسب الاجتهادات في التأويل فإن العبرة تكمن في الانصياع إلى أمر الله تبارك وتعالى، وتحصيل رضاه والأمن والأمان في الآخرة، فالمؤمن في المحصلة هو صنيعة الأوامر الربانية، وبهذا المعنى يحظى بأمن الله تعالى له في اليوم الآخر، ذلك اليوم الذي يكون أقصى أماني بني البشر فيه هو الحصول على الأمن والأمان في جوّ من الفزع الأكبر يخيّم على كل ذرّات الكون.
محمد والقرآن
وحول هذا المعنى تحدث علماء التأويل، ومنهم الإمام العظيم ابن كثير رحمه الله تبارك وتعالى، وذلك عندما تناول تفسيره للآية الكريمة على النحو التالي:
(يقول تعالى مخبرا عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة -والمراد الذرية - إنه سينزل الكتب ويبعث الأنبياء والرسل، كما قال أبو العالية الهدى: الأنبياء والرسل والبينات والبيان، وقال مقاتل بن حيان: الهدى محمد صلى اللَّه عليه وسلّم، وقال الحسن الهدى القرآن، وهذان القولان صحيحان. وقول أبي العالية أعم "فَمَنْ اِتَّبَعَ هُدَايَ" أي من أقبل على ما أنزلْت به الكتب وأرسلت به الرسل "فلا خوف عليهم" أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة "ولا هم يحزنون" على ما فاتهم من أمور الدنيا، كما قال في سورة طه "قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعضٍ عدو فإما يأْتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى" قال ابن عباس فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة).
تأويل الطبري
مما جاء عند الطبري في تأويل الآية:
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَالْهُدَى فِي هَذَا الْمَوْضِع الْبَيَان وَالرَّشَاد، ونقل عن أَبِي الْعَالِيَة فِي قَوْله: "فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى" قَالَ: الْهُدَى: الْأَنْبِيَاء وَالرُّسُل وَالْبَيَان. فَإِنْ كَانَ مَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَة فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ، فَالْخِطَاب بِقَوْلِهِ: "اهْبِطُوا" وَإِنْ كَانَ لِآدَم وَزَوْجَته، فَيَجِب أَنْ يَكُون مُرَادًا بِهِ آدَم وَزَوْجَته وَذُرِّيَّتهمَا. فَيَكُون ذَلِكَ حِينَئِذٍ نَظِير قَوْله: "فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ" (فصلت: 11). وَقَوْله: "فَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ" يَعْنِي فَهُمْ آمِنُونَ فِي أَهْوَال الْقِيَامَة مِنْ عِقَاب اللَّه غَيْر خَائِفِينَ عَذَابه، بِمَا أَطَاعُوا اللَّه فِي الدُّنْيَا وَاتَّبَعُوا أَمْره وَهُدَاهُ وَسَبِيله "وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" يَوْمئِذٍ عَلَى مَا خَلَّفُوا بَعْد وَفَاتهمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا في الحديث عن يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب، قَالَ: قَالَ ابْن زَيْد: "لَا خَوْف عَلَيْهِمْ" يَقُول لَا خَوْف عَلَيْكُمْ أَمَامكُمْ، وَلَيْسَ شَيْء أَعْظَم فِي صَدْر الَّذِي يَمُوت مِمَّا بَعْد الْمَوْت، فَأَمَّنَهُمْ مِنْهُ وَسَلَاهُمْ عَنْ الدُّنْيَا، فَقَالَ: "وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ".
