بدأ الجدال في المسائل الدينية في تونس يمسّ - ما يعتبره كثيرون - خطوطا حمراء، وهي الخطوط الثابتة شرعا ومنهاجا في حياة المسلمين على امتداد مئات السنين، ما قد ينظر إليه على أنه يمثل تحديات وأخطارا اجتماعية على هذا البلد الذي ينفض عنه غبار عقود من الحكم الديكتاتوري الذي غيّب الحراك الفكري والسياسي على مستوى القواعد والنخب. واليوم يثار حديث على مستوى القمة بخصوص حقوق الإرث للمرأة، وارتفاع بعض الأصوات الداعية إلى مساواة المرأة بالرجل في الإرث، في مواجهة صريحة وعلنية مع النصوص القرآنية التي تنص على أنه للذكر مثل حظ الأنثيين، ولكن هذه الدعوات تواجه برفض قطعي وغضب واضح من أغلبية الشارع التونسي الذي يمثله حزب النهضة الفائز بالانتخابات، وكذلك السلفيون الذين يمثلون شريحة واسعة في الواقع الاجتماعي الطارئ بعد الثورة.

و خلال الاعوام الماضية عرفت تونس حركة متزايدة تدعو الى المساواة في الارث، تقودها أساساً الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات بقيادة الناشطة الحقوقية سناء بن عاشور ابنة الشيخ محمد الفاضل بن عاشور صاحب كتاب «التحرير و التنوير» واول مفت للجمهورية التونسية بعد الاستقلال والحاضن الشرعي لقانون الاحوال الشخصية.

موضوع جوهري

ترى الحقوقية التونسية بشرى الحاج حميدة ان «مسألة الميراث من المواضيع الجوهرية لأنها أولا معيار تقييم أي مشروع مجتمعي فهو يشق العقلية الذكورية ويرجّها في الصميم نظريا. وقضية الإرث بعيدة كل البعد عن كل أنواع الترف، بل هي بالعكس تهم تلك العاملة المنزلية التي تتولى على امتداد سنوات تخصيص دخلها لبناء أو تحسين المسكن العائلي ثم يستولي عليه أخوتها الذكور وكذلك البنت التي لم تتزوج أو المرأة المطلقة التي ليس لها مسكن ولا ترث إلا جزءا ضئيلا من المسكن العائلي وتلك الأرملة التي تجبر على مغادرة محل الزوجية وغيرها من الحالات».

أنصار المساواة

الرئيس التونسي المنصف المرزوقي من المتحمسين لموضوع المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، وفي كلمة له نشرها على مدونته الخاصة قال «انني امضيت باسمي الخاص في عريضة المساواة في الارث وانها كلفتني ولا تزال الكثير من الناحية السياسية، وذلك لايماني بأن الاسلام نزل في قوم يمنعون المرأة من كل ميراث وان المناصفة آنذاك كانت ثورة كبرى، وانه لو نزل اليوم لذهب الى ابعد ما يفسره الفقهاء». المرزوقي امضى في العام 1995 على وثيقة تدعو الى المساواة في الميراث اما اليوم فقد يختار الصمت اذا طرح عليه الامر من جديد، حيث ان حلفاءه من الاسلاميين يرفضون الامر جملة و تفصيلا، والسلفيون التونسيون الذين ينتشرون بقوة في البلاد و يهيمنون على مساحة كبيرة من الواقع الاجتماعي لمرحلة ما بعد الثورة لا يترددون في تكفير كل من يدعو الى هذا الامر.

تأييد الشيوعيين

يؤكد زعيم الحزب الشيوعي التونسي حمة الهمامي تأييده المساواة، ويقول «مهما يكن من أمر فإن مطلب المساواة في الإرث يكتسي بالنسبة لنا، بالإضافة إلى طابعه الاجتماعي المباشر المتمثل في الحيف الذي يلحق النساء من جرّاء عدم المساواة أو من التحيّل الذي هن ضحية له حتى في حدود النصيب الذي يسنده إليهن القانون، طابعا رمزيا في سياق النضال من أجل تحقيق المساواة في الحقوق بين الجنسين، لأن إقرار المساواة في الإرث من المسائل المهمة التي ستيسّر نقاش مسألة حقوق النساء التونسيات كقضية حقوق مدنية واجتماعية وسياسية وثقافية». و يستند الهمامي الى رؤية الزعيم الطاهر الحداد اول من دعا الى تحرير المرأة من خلال كتابه «امرأتنا في الشريعة و المجتمع»، و هو من حريجي الجامعة الزيتونية و الذي نسّب "حكم الإرث" ودعا إلى تجاوزه مستندا إلى تغيّر الواقع الاقتصادي الذي تغيّر معه موقع المرأة في العلاقات الاجتماعية. فقد خرجت إلى الشغل، وأصبحت تسهم في إنتاج الثروة الاجتماعية وفي الإنفاق على العائلة وهو ما يجعل الحفاظ على اللامساواة في الإرث أمرا لا مبرر له، بل فيه انتهاك لحقوقها المدنية. كما يجعل تبرير هذا الحفاظ بحجج دينية أمرا غير معقول.

ذنب التاريخ

و يقول الهمامي في احدى محاضراته انه « ما دام الحديث عن الإرث، أود أن أوضح نقطة هامة، تثار كلما تم التطرق إلى هذه المسألة. يقرّ بعض رموز التيار الإسلامي، التاريخيين على غرار الشيخ حسن البنا، بو جود اللامساواة في الإرث في الإسلام، ولكنه لا يرى في هذه اللامساواة مسا بحقوق المرأة، بل يعتبرها من باب "العدل" لأن الرجل تعود إليه مسؤولية الإنفاق على العائلة (أي القوامة) فاللامساواة بالنسبة إليه ليست دائما مظلمة كما أن المساواة ليست دائما مؤشرا للعدل. وهو ما نخالفه فيه الرأي، فاللامساواة، عندما يتعلّق الأمر بالحقوق الإنسانية، هي في كل الظروف منافية للعدل. ففي المجال الذي نتحدّث عنه وهو الإرث، فكون المرأة كانت عند مجيء الإسلام مهمّشة وتابعة والرجل "قوَّام عليها" وعلى العائلة هو أمر ليس للمرأة فيه مسؤولية وليس مرتبطا بـ"خواص عقلية وجسدية متأصلة فيها"، فالذنب إذن هو ذنب "التاريخ" إن شئنا وليس ذنبها. وليس أدل على ذلك من أنه لمّا خرج النساء إلى الحياة العامة وتعلّمن واشتغلن وتحمّلن المسؤوليات أظهرن أنهن يتمتعن بنفس المؤهلات الإنسانية التي يتمتع بها الرجال.

رفض وغضب

في المقابل يرى حزب التحرير الاسلامي مسائل الميراث والمساواة بين المرأة و الرجل قد حسمها النص القرأني بمنتهى الوضوح، ولا مجال لإعادة صياغتها الا اذا كان ذلك من باب القطع مع الدين الذي يمثل مرجعية كل مسلم». ونفى الناطق الرسمي باسم الحزب رضا بلحاج ان يكون تمتع الرجل بضعف نصيب المرأة من الميراث مظهرا من مظاهر التمييز والتفضيل بين الجنسين، مؤكدا ان ذلك يأتي في اطار منظومة متكاملة تفرض على الرجل العمل والسعي في الارض وتحمل مسؤولية الانفاق على الزوجة والابناء، لتتكامل الادوار بين الجنسين».

اما وزير الداخلية الحالي واحد قياديي حركة النهضة علي العريّض فقد سبق وان صرّح انه «لا بد من القطع مع نظرية الصراع بين الرجل و المرأة، وان يفسر النص القرآني برمته، لنستخلص انه يكرّس المساواة بين الرجل والمرأة والتكامل بينهما من خلال تقاسم الادوار «واضاف ان طرح مسألة الميراث يجب ان يكون عميقا وبطريقة منهجية وواضحة لا تختلف مع جوهر النص القرآني ولا تحيد عن معانيه السامية».