الضمان الاجتماعي في الإسلام مسؤولية شرعية ثابتة

ت + ت - الحجم الطبيعي

شريعة الإسلام صاحبة السبق في إقرار جميع القوانين التي تصون المجتمع وتحميه من الهزات الأخلاقية والانحرافات السلوكية والفتن البشرية التي تبرز نتيجة التفاوت البين بين الأغنياء والفقراء.

لقد جاءت فكرة الضمان الاجتماعي في المجتمعات الغربية كقرار سياسي لمواجهة ضغوط اجتماعية شكلت تهديداً لأمن واستقرار المجتمع، وتجنباً لهذا التهديد أو تخفيفاً لتأثيراته المحتملة في أوضاعها السياسية والأمنية، وجدت الدول نفسها ملزمة بتقديم أشكال من العون والمساعدة للشرائح الأضعف من المجتمع سواء جاء ذلك تحت مسمى المساعدات الاجتماعية أو الضمان الاجتماعي.

وتحول هذا الالتزام في مراحله المتقدمة إلى مبدأ دولي تحميه المواثيق الدولية باعتباره من الحقوق الإنسانية الواجب توفيرها والحفاظ عليها من أي انتهاك أو إخلال.

وتأكيداً لذلك نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام ‬1948م في مادته الثانية والعشرين على أن: (لكل شخص، بوصفه عضواً في المجتمع، حق في الضمان الاجتماعي، ومن حقه أن توفر له، من خلال المجهود القومي والتعاون الدولي، وبما يتفق مع هيكل كل دولة ومواردها، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الثقافية التي لا غنى عنها لكرامته ولتنامي شخصيته في حرية).

وقد تعزز هذا النص أيضاً من خلال العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المعتمد من قِبل الجمعية العامة للأمم المتحدة عام ‬1966م والذي أقرّت الدول الأطراف بمقتضى مادته التاسعة (بحق كل شخص في الضمان الاجتماعي، بما في ذلك التأمينات الاجتماعية).

أما نظرة الإسلام إلى الضمان الاجتماعي قبل ذلك بمئات السنين، فقد كانت أعلى شأناً وأكثر تقديراً لكرامة الإنسان بأن جعلت هذا الضمان مسؤولية شرعية ثابتة لا يجوز بأي حال التفريط فيها، فهي ليست منةً للمجتمع أو للأغنياء أو للدولة على أولئك المستحقين بل قاعدة دينية ثابتة ومظهر للإيمان بالله واليوم الآخر، وتكريم واجب للإنسان خليفة الله في أرضه. ومن ثم ترتب التزام شرعي على الدولة بأن تكفله على وجه الدوام بما يحقق المقاصد الشرعية، وأدلة ذلك في القرآن الكريم والسنة المطهرة أكثر من أن تحصى.

النظرية الاجتماعية الإسلامية لا تلوم الفقراء على فقرهم ولا تلزمهم مسؤولية تحميل الآخرين كاهل الإنفاق، بل إن الإسلام ينظر ضمن منهجه الاجتماعي الشامل إلى الفقراء نظرة ملؤها الترحم وروح المساواة، ويؤكد أن للفقراء حقاً ثابتاً في أموال الأغنياء اي يوجد ما يشبه الشركة بين الفقراء والأغنياء في الأموال، فليس لهم أن يصرفوا إلى غير شركائهم، بمعنى أن الله سبحانه قد جعل للفقراء حقاً في أموال الأغنياء كحق غرماء الميت المتعلق بتركته، فان امتنع الغني عن أداء ذلك الحق، كان للحاكم الشرعي أو لعدول المسلمين من باب الحسبة استيفاء ذلك الحق قهراً. وليست الضريبة الواجبة من زكاة وخمس وكفارات وزكاة فطر وهديٍ... هو كل ما يقدمه الإسلام للفقراء، بل إن الإنفاق المستحب وصدقة السر تسد جزءاً كبيراً من حاجاتهم أيضا، إلى حد الكفاية والغنى.

 

حاجة

والفقر الذي ورد في قوله تعالى بخصوص انكاح الايامى: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) (النور ‬32)، حدد عن طريق الشارع بحالة الفرد الذي لا يملك مؤونة سنته اللائقة بحاله أو لعياله. بمعنى أن المؤونة السنوية هي الفصل في كشف حالة الفرد فيما يتعلق بالغنى أو الفقر.

فالفقير من لا يملك مؤونة سنة، والغني هو الذي تتحقق له مؤونة سنوية لائقة بوضعه الاجتماعي. وقيل: (إن الأولى ايكال معرفة النفقة المستثناة أو المؤونة إلى العرف)، وبذلك فان كل فرد في المجتمع الإسلامي مضمون على الصعيد التطبيقي من الناحية المعيشية لمدة سنة كاملة، فإذا دخلت السنة الجديدة وليس لديه وعائلته ما يكفيهم ـ عندئذٍ ـ يحق له أخذ ما يكفيه مع من يعيلهم من الموارد المالية الشرعية لسنة أخرى.. وهكذا عسى أن يتبدل وضعه الاقتصادي فيصبح غنياً. وهذا الضمان المالي يشبع حاجات الطبقة الفقيرة ثم يرفعها إلى مستوى عامة الناس وهي الطبقة المتوسطة في النظام الاجتماعي الإسلامي.

فلا ريب إذن أن يثق الإسلام ثقة مطلقة بنظامه الاجتماعي الذي يعالج فيه الفقر معالجة حقيقية ولو أن الناس أدوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً.

ولا شك أن الفرد الجائع يمثل إدانة حقيقية للنظام الاجتماعي الذي يعيش فيه، خصوصاً إذا كان ذلك النظام يساهم في تجويعه وحرمانه من أبسط مقومات الحياة. ولما كان الإسلام يمثل جوهر العدالة الاجتماعية فانه يعتبر من أخطر الأنظمة الفكرية العقدية المضادة للنظام الاجتماعي الرأسمالي الذي يحصر الثروة الاجتماعية بالطبقة العليا، غير مكترث بحرمان أفراد بقية الطبقات من خيرات النظام الاجتماعي. وقد اتخذ الاسلام منهجا عمليا رائعا في تحويل الفقراء إلى الطبقة الأعلى فأمر بتحريك المال الصامت لتنشيط الطاقات والإبداعات المختلفة في النظام الاجتماعي ؛ وهدد بمعاقبة أولئك الذين يخالفون هذا النظام المالي الدقيق: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم...) التوبة: ‬34.

كما أمر بفرض ضريبة ثابتة على أموال الأغنياء: (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين)... (وفي أموالهم حقٌ للسائل والمحروم) (الذاريات ‬16،‬19)، (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: ‬103)، (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة) (البلد: ‬11 ـ ‬16).

 

Email