إذا كان جمال التصميم وسحر الألوان ومتعة الزخارف تميز العمران الحديث، فإن ما يميز المباني القديمة بساطتها وصمودها أمام تقلبات السنوات، وعلى الرغم من تواضع المواد التي دخلت في بنائها وبدائية الهندسة المعمارية التي أبدعتها إلا أنها تشعر المتأمل فيها بعظمة الفن الهندسي الذي جعلها صامدة لعقود منذ تشييدها، كما تثير حفيظته بتساؤلات عديدة حول أسباب تصدي هذه المباني البسيطة للتصدع والتآكل في الوقت الذي تشكو فيه اليوم بعض المباني الحديثة التي صممت على درجات عالية من الحرفية والدقة من الهشاشة أمام أبسط التغيرات التي قد تمر بها..

زيارتنا للحاج اسماعيل أحمد البناي معمر سور قلعة الفهيدي ومجلس الشيخ راشد بن سعيد تكشف لنا بعض تفاصيل هذه المهنة حيث أشار الى أن البناء الحديث التهم الفرجان القديمة .

تطور البناء

قال البناي أن هناك العديد من التغيرات التي طرأت على عملية البناء، إذ كان أغلب الناس في السابق يشيدون منازلهم من سعف النخيل والخيام، ثم توجهوا بعد ذلك للبناء بالطين والحجارة وجذوع النخيل، مشيراً إلى أن البناء بالطين لا تختلف تفاصيله عن البناء الحديث، إذ كان يبدأ بتحديد مساحات البناء بالخيوط أو بقطعة قماش، وبعد ذلك يحفر في الأرض بعمق مترين أو أقل ثم يبدأ بوضع الأساس، والذي يتكون من الحجارة التي يتم استخراجها من البر أو البحر ثم تتفتت وتحرق وتوضع في شكل قوالب ويضاف عليها الطين لتصبح صلبة وأكثر تماسكا، وبعد أن تجف ترص فوق بعضها لتكون الشكل المطلوب ويضاف لها الطين ليزيد من قوة تلاحمها.

بيوت الطين

وأضاف أن والده وأجداده عملوا مقاولين للبناء منذ طفولتهم وكانت بدايتهم ببناء بيوت الشعر والخيم، ثم بيوت الطين والحجارة، وكان يسمى المقاول في ذلك الوقت "استاذ"، مشيرا إلى أن هناك العديد من المنازل التي شيدوها في فرجان البستكية والبحارنة والشندغة، ولكن العمران الحديث التهم ما بقى منها. وأشار إلى أن خبرته التي اكتسبها أهلته لإنشاء المقاولات التي جاءت نتيجة مرافقته المستمرة لوالده منذ الطفولة والتي نهل منها الكثير من الخبرات، لأنه كان يدرك أن مهنة آبائه وأجداده لا بد أن يحييها ويحافظ عليها، لذلك كرس حياته في الخوض بين عباب هذه المهنة حتى أتقنها، وأصبح يواكب تغييراتها حتى قبيل بضعة أعوام.

أجرة يومية

أكد البناي أن مزاولة المقاولات في السابق لا تتطلب شهادات وخبرات كما في الوقت الحالي، وإنما تتطلب الرغبة والذكاء، بالإضافة إلى ذلك لم تعرف المهنة المصطلحات الحالية مثل دفعات وخرائط ورسومات، فإذا رغب أحد الأشخاص في تشييد منزل أو أي مبنى يقوم بالاتفاق مع المقاول "الأستاذ" الذي يكون مشرفاً على فريق من الأيدي العاملة والتي غالباً ما تكون سواعد إماراتية، وبعد الاتفاق يبدأ البناؤون بالعمل بناء على التوضيح الذي يوجه به المقاول ويكون تلقاه من مالك المنزل بدون خرائط أو رسومات توضيحية، وفي مساء كل يوم يتلقى المقاول ورفاقه أجرتهم اليومية بناء على الأسعار المتعارف عليها في ذلك الوقت والتي تتراوح بين درهمين إلى خمسة دراهم، مشيراً إلى أن مالك المبنى هو من يوفر كافة المستلزمات، إلا في بعض الحالات.

ادوات البناء

أوضح اسماعيل البناي أن مستلزمات البناء في السابق كانت بسيطة، وكان الاعتماد على المصادر المتوفرة في المناطق القريبة، حيث كانوا يجلبون الحجارة من البحر في المناطق الساحلية، ويتم حرقها وتكسيرها، ثم مزجها بالطين والجص ووضعها في شكل قوالب، وتترك في الشمس لعدة أيام حتى تجف، وبعد أن تصبح صلبة يبدأ البناؤون في رصها باستخدام الطين ليزيد من قوة تماسكها، مشيراً إلى أن مواد البناء في السابق مستخلصة من البيئة المحلية.

حيث كانت الأسقف تغطى بسعف النخيل وجذوعها، ومع بداية الحركة التجارية مع دول شرق آسيا بدأ بعض التجار باستيراد بعض المنتجات التي تستخدم في البناء مثل الأخشاب والإسمنت وأصبح هناك تطور ملحوظ في جودة البناء. ومن المباني التي شيدها اسماعيل ومازالت قائمة حتى الآن بناء مستودع يعود الى أيام الاستعمار البريطاني للمنطقة حيث طلب منه تشييد مستودع وأنجزه بالحجارة والطين ومازال قائما حتى الآن في موقع قريب من شارع الشيخ زايد.

 فن بدائي

 

تمنى البناي أن لا تختفي مهنة البناء القديم، وأن لا يسيطر التطور العمراني على ما تبقى من أبنية وقلاع قديمة، لأنها توثق مهنة المعمار، وتقف دليلا على الفن البدائي النابع من احتياجات البيئة، لافتاً إلى أن وجود ذلك يذكر الجيل الحالي بمهنة كانت مصدر رزق أساسي للآباء والأجداد، ويبرز دورهم في الاعتماد على الذات عندما تتطلب الحاجة إلى ذلك، حيث إنهم لم يقفوا مكتوفي الايدي أمام ظروف المناخ القاسية، بل سخروا قدراتهم لتعمير منازلهم التي حمتهم من لهيب الشمس وبرودة الشتاء وزخات الأمطار.