لا تشكل المياه حاجة أساسية للحياة وحسب، بل إنها حاجة أساسية للتنمية أيضاً، إذ أصبحت شرطاً لا غنى عنه من شروط النمو والتطور، وليس بإمكان بلد من البلدان أن يتطور دون أن تتوفر له مصادر مائية مناسبة، بل لا يمكن له أن يطمئن إلى أمنه ما لم ينجز أمنه المائي، إذ يتصل مفهوم "الأمن المائي" بوفرة المياه في بلد ما سواء مصادرها المتجددة أو غير المتجددة، غير أن الأمن بمعناه العريض لا يتوقف على تلك الحدود الرقمية التي تحدد نصيب الفرد من المياه سنوياً؛ وإنما يقوم في جوهره على مقدار استدامة الموارد المائية، حيث يصح القول بأن دولةً ما حققت الأمن المائي عندما يتعادل استهلاكها لمواردها المائية مع قدرة هذه الموارد على التجدد، فتختفي حينها "الفجوة المائية"، وتتحقق الاستدامة.

ومن المعلوم أن منطقة الشرق الأوسط من أكثر مناطق العالم فقراً بالموارد المائية، وأقلها من حيث معدلات الأمطار، وقد أسهمت بعض السياسات الزراعية التي تم تبنيها في النصف الثاني من القرن العشرين في زيادة حدة هذا الفقر، إلى أن تنبّه الخبراء والساسة وصناع القرار لهذا الواقع مع نهايات القرن الماضي، إذ بدأت دوائر البحث في دق ناقوس الخطر، حيث أكدت الدراسات المحلية والأجنبية أن استنزاف الموارد المائية بلغ حداً خطيراً، وزادت معدلات الزيادة السكانية المرتفعة من الضغط على الموارد المائية، حتى أن نصيب الفرد من الماء في المنطقة سيقل إلى 50 % مقارنةً بما هو عليه الآن بحلول عام 2025.

وتلتزم دولة الإمارات العربية المتحدة بتأمين وحماية مصادر المياه وتعمل مع المجتمع ومؤسساته على توفير أعلى معايير كفاءة إدارة الطلب على الموارد وترشيد استهلاكها بغرض استدامتها والحفاظ عليها من خلال التزامها بمبادرة اقتصاد أخضر لتنمية مستدامة لدولة الإمارات العربية المتحدة من أجل التنمية المستدامة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله.

وتتضمن المبادرة مساراً باسم «الحياة الخضراء» يشمل مجموعة من السياسات والبرامج الهادفة لترشيد استخدام موارد الماء والكهرباء والموارد الطبيعية، بالإضافة لمشاريع إعادة تدوير المخلفات الناتجة عن الاستخدامات التجارية أو الفردية، كما يحوي هذا المسار مبادرات التوعية والتعليم البيئي للجمهور سواء عن طريق القطاعات التعليمية أو عبر وسائل التوعية الإعلامية بما يضمن رفع مستوى تفاعل الجمهور مع مبادرات الاقتصاد الأخضر كافة.

الأمن المائي والفجوة المائية

وتحتل مسألة الأمن المائي أهمية متزايدة وذلك ليس بسبب اتساع الفجوة بين العرض والطلب من المياه وحسب؛ وإنما أيضاً بسبب تسارع وتيرة تدهور المصادر المائية المتاحة الناجم عن تزايد معدلات التلوث البيئي، فضلاً عن قضية التغيرات المناخية التي تفرض نفسها على درجات الحرارة ومعدلات هطول الأمطار..إلخ، ويعرف الأمن المائي رقمياً بتوفر 1000 - 2000 متر مكعب للفرد سنوياً على الأقل، وهو ما يشكل العتبة التي تفصل بين الغنى والفقر المائي، وثمة أربع دول عربية فقط يحظى فيها الفرد بأكثر من تلك القيمة، بينما تقع البقية كلها في مجال الفقر المائي، ومما يزيد الطين بلة أن جميع هذه الدول هي دول تسير على طريق التنمية ولحقت مؤخراً بركاب التقدم، وبدأت على نحو متفاوت مشاريعها التنموية، ومن المعلوم أن تلك المشاريع تتطلب المزيد من الموارد المائية لتلبية الاحتياجات التنموية على الصعيد الزراعي والصناعي والعمراني..إلخ.

ومن المهم أن نعلم بأن دولة الإمارات تقع في نطاق ما يدعى الدول المدارية الجافة التي تضم أغلب الدول العربية، والتي تمتاز بارتفاع معدلات درجة الحرارة وقلة معدلات هطول الأمطار وتباينها، حيث تتراوح معدلات الهطول المطرية في الدولة بين 46 ميلليمتر سنوياً في المنطقة الغربية إلى نحو 120 ميلليمتر سنوياً في المنطقة الشرقية، الأمر الذي أسفر عن ندرة الموارد المائية السطحية المتجددة، كالأنهار والبحيرات وغيرها من المسطحات المائية العذبة، مما أدى بدوره إلى تصاعد الاعتماد على المياه الجوفية لتلبية الطلب المتنامي على المياه، سواء للشرب أو للاستخدامات الزراعية.

ويحذر الاختصاصيون من التأثيرات المتوقعة لظاهرة التغير المناخي على مصادر المياه والنظم البيئية للمناطق الجافة لاسيما في الدولة، إذ تؤكد الدراسات أن الأخطار المترتبة على التغير المناخي كبيرة وعالية التأثير على الموارد والبنية التحتية..

تاريخياً

وكانت المياه الجوفية المصدر المائي الرئيسي لمواطني الإمارات تاريخيا، وسعى ابن هذه الأرض منذ قرون إلى التصدي لمشكلة ندرة المياه عبر أساليب متعددة منها ما يعرف بالأفلاج، وهي عبارة عن أقنية سطحية أو غائرة في باطن الأرض، تنقل المياه من مكان توفرها إلى مكان استخدامها، وهناك 150 فلجاً في الدولة، مازال 50 منها على قيد الاستعمال، وتستخدم بصورة أساسية لأغراض الري..

أما الأسلوب الثاني، فهو أحدث عهداً، وتجلى في إنشاء عدد غير قليل من السدود لحجز مياه الأودية وقد انطلقت أعمال إنشاء السدود في عهد المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، وما زالت مستمرة حتى اليوم، حيث أولت القيادة اهتماماً كبيراً لإقامة السدود بغرض حجز مياه الأمطار لتغذية المياه الجوفية فضلاً عن الأغراض الزراعية المباشرة، حتى بلغ عدد السدود أكثر من المئة.

مياهنا بالأرقام

وتبلغ حصة المياه الجوفية من الاستهلاك المحلي نحو 60%، الأمر الذي يضع ذلك المخزون تحت الخطر، كما يجدر القول بأن استنزاف المياه الجوفية لم يكن بسبب استهلاك المياه الشرب فقط، وإنما نتج بصورة أكبر عن أعمال الري لاسيما التقليدية منها، وكذلك مشكلة التلوث التي تقلق المشتغلين على تأمين موارد المياه، والتي أدت إلى تراجع نوعية المياه الجوفية وزيادة ملوحتها، لذلك عمدت أجهزة الدولة المعنية على توسيع أنشطة الري المعتمد على الأساليب الحديثة.

وبالنظر إلى معدلات الاستهلاك حسب القطاعات؛ نجد أن الاستخدامات الزراعية تحظى بالحصة الأكبر وتفوق بنحو 50 % الاستهلاك الكلي من المياه، بينما تراوح الاستخدامات المنزلية بحدود 15 %، وتتوزع البقية على الاستخدامات الصناعية والسياحية وأغراض الاستجمام والترفيه..

ويعد معدل الاستهلاك الفردي للمياه في الخليج العربي عموماً من بين الأعلى عالمياً، حيث تزيد أحياناً على 350 ليتراً يومياً، بينما نجد أن المعدل العالمي يتراوح بين 180 200 ليتر للفرد يومياً، وقد يستغرب القارئ هذه الأرقام، لذا ينبغي الإشارة إلى أن فاتورة استهلاك المياه تشمل بصورة غير مباشرة الاستهلاك الكلي للفرد، حيث إن أكل تفاحةٍ يعني استهلاك 70 ليتراً من الماء، وهي كمية الماء اللازمة لإنتاج هذه التفاحة.

أصل الحياة والتنمية

وتحتاج المشروعات التنموية على أنواعها إلى المياه، بل إن بعض أنواع المشاريع الصناعية والزراعية تقوم على المياه بالدرجة الأولى وكثيراً ما توصف بأنها غزيرة الاستهلاك للمياه، وعلى العموم يمكن القول باستحالة إنجاز التنمية في بلد ما بدون توفر الموارد المائية اللازمة.

وبالمثل؛ نجد أن عملية النهوض الواسعة والمستمرة التي شهدتها دول الخليج العربي، ضغطت بصورة كبيرة على الموارد المائية في المنطقة، بحيث استحال على تلك الأخيرة تلبية المتطلبات التنموية والسكانية المتزايدة، الأمر الذي أدى إلى حدوث فجوة مائية ضخمة بين المتاح من موارد الماء والمطلوب منها، حتى إن معدلات استهلاك الماء في بعض الإمارات بلغت أكثر 20 ضعفاً عن مستوى الإمدادات المتجددة فيها.

مسؤولية جماعية

 

لابد من التأكيد بأن مسؤولية الحفاظ على الماء (وغيرها من الموارد الطبيعية) لا تقع على عاتق الحكومات ومؤسساتها وحسب، بل إنها مسؤولية جماعية ينبغي التصدي لها على المستويات كافّة انطلاقاً من المستوى الفردي وحتى مستوى التعاون الإقليمي والعالمي بين الحكومات والشعوب والمؤسسات، مروراً بالمؤسسات الخاصة التي يترتب عليها بذل المزيد من الجهود في هذه القضية، لاسيما وأنها شريك رئيسي لا غنى عنه لبلوغ الأهداف المرجوة على هذا الصعيد، كما يجب تعزيز حضور المنظمات الأهلية التي لها دور كبير في مسألة تثقيف المجتمعات المحلية وحثّها على المشاركة والانخراط في الجهود المبذولة... تحلية «البحر» للتعويض عن ندرة الماء في الخليج العربي

خطت دول الخليج العربي عامةً خطوات واسعة نحو تحلية مياه البحر للتعويض عن ندرة الماء على أراضيها سواء المتجددة أو غير المتجددة منها، فدشنت عدداً وافراً من مشاريع محطات التحلية حتى أصبحت تتبوأ الموقع الأول في هذا المجال عالمياً.

حيث إن الاندفاع قدماً صوب البحر لتجسير تلك الفجوة المائية، جعل من مياه الخليج العربي المصدر الأساسي لمياه الشرب في الدولة وبقية الدول مجلس التعاون، بعد تحليتها بالطبع، ومن أجل الحصول على مياه الشرب من مياه الخليج المالحة تلك كان لابد من خفض نسبة الملوحة في المياه، ومحلياً لم يختلف المشهد كثيراً عما هو سائد في دول الخليج العربي عامةً، إذ لم يكن من بد من التوجه إلى مشاريع التحلية بغزارة، خصوصاً وأن معدلات الاستهلاك شهدت تصاعداً كبيراً في السنوات الأخيرة بلغ حد التضاعف في بعض المناطق.

وذلك نتيجة النمو الاقتصادي والسكاني السريع فيها، حتى بلغ إسهام محطات التحلية في تأمين المياه للاستخدامات المنزلية في بعض مناطق الدولة أكثر من 90 %، وهو في تصاعد مستمر، مقابل انحسار حصة مياه الآبار، ولم يكن هذا خياراً محلياً فقط كما ذكرنا آنفاً، حيث أشارت وكالة المياه العالمية؛ إلى وجود العدد الأكبر من محطات تحلية مياه البحر حول العالم في الشرق الأوسط وحده.

لكن التوجه نحو التحلية لم يكن سهلاً أبداً، فتلك المشاريع ابتلعت كميات كبيرة من الطاقة التقليدية ما جعلها مكلفة للغاية فضلاً عن آثارها البيئية السلبية، وعلى الرغم مما حققته من تلك المشاريع من "استقرار مائي"؛ إلا أنها طرحت العديد من المشكلات الكفيلة بدفع الاختصاصيين لإعادة النظر في جدواها وديمومتها كخيار من بين خيارات أخرى..

مبادرات

وانبرت الكثير من الجهات الحكومية الفنية ذات الصلة والخاصة وحتى الأهلية للتصدي لهذا الواقع، وشهدنا في السنوات الأخيرة عدداً كبيراً جداً من المبادرات على كافة المستويات، والتي تستهدف الحفاظ على المياه وترشيد استهلاكها.. ويبدو واضحاً أن التأثير في معدلات الاستهلاك الفردي نحو خفضها سيكون له أثره البالغ على معدلات الاستهلاك الكلية، لذلك نجد أن الكثير من المؤسسات المعنية اتجهت لمخاطبة المستهلك النهائي لحثّه على تبني سلوكيات الترشيد ومنها على سبيل المثال العديد من الحملات التي نظمتها هيئة كهرباء ومياه دبي؛ كحملة الأجهزة المنزلية الصديقة للبيئة، وحملة الترشيد في أوقات الذروة، وحملة الأحياء السكنية..

وثمة الكثير من التوصيات التي تخرج من حين لآخر في الندوات والمؤتمرات العلمية، والتي تدق نواقيس الخطر من جهة، وتحض على اتخاذ المزيد من المبادرات الجريئة من جهة ثانية، ومنها ما يستهدف تحسين نوعية الماء في الدولة لاسيما تحسين مخزونات موارد المياه الجوفية عبر الترشيد والحد من استهلاك الموارد المائية على أنواعها، ولعل أهمها الاعتماد التام على وسائل الري الحديثة، وتطوير تقنيات حصاد الأمطار، وبذل المزيد من الجهود في مجال نشر الوعي البيئي المائي، ورفع كفاءة شبكات نقل وتوزيع المياه وتقليل الفاقد منها، وكذلك تطوير السياسات والتشريعات المتعلقة بالمياه، وتطوير معالجات المياه المستخدمة لإعادة استخدامها..