رغم أن الوقت الذي مضى لم يكن طويلاً بحساب ما توقعته، ولكن وطأة الموقف وقسوته جعلها تسترجع في كل لحظة ردحاً من عمرها الذي مضى، فقلبها لايزال معلقا بتلك الذكريات التي عاشتها طفلة بين أحضانه، والآن تقف أمام القضاء لتشكو أباها الحبيب الذي طالما كان محور حياتها رغم غيابه المستمر، واليوم لن يحضر هذه الجلسة، لقد أودع رأيه لدى القاضي، الذي يريد أن يستمع الآن لردها.
كانت الصور تتزاحم نحو مخيلتها، هذه صورتها طفلة تبكي عند زاوية الغرفة بينما يملأ صراخ والدها المكان، ودموع والدتها على الوجه الغاضب تتحدى الصراخ بالصراخ، وفي زاوية الصورة أمها الملقاة تحت وطأة ضربات أبيها المتتابعة بيديه ورجليه، وقد منعها العناد حتى من التأوه، وها هي تجر حقيبة تعادلها وزناً وتمشي خلف أمها التي حملت أختها الرضيعة.
وقد علقت على ذراعها عدة حقائب أخرى، وخالها ينتظرهم أمام باب المنزل، وما إن أطلوا حتى أسرع إليهم وحمل عنهم ما استطاع بعد أن قبلها بسرعة وبرود، وفي الطريق تكلم كثيراً بسرعة وبغضب، فإذا وقعت عيناه عليها، رسم ابتسامة غريبة وكأنه تفاجأ بوجودها، وابتلع مابقي في جوفه من كلمات.
خطوات
وفي لحظة تتبدد كل هذه الصور ما أن تتراءى لها ابتسامة والدها عندما كان يدخل البيت حاملاً معه أصناف الفرح كافة، وكأنه كان يسابق خطواته نحو البيت، يركض نحوها فيحملها ويطير بها إلى كل اتجاهات البيت، يختبئ لتبحث عنه، فإن وجدته ظل يدغدغها حتى تشعر بأن قلبها أوشك على التوقف، وأمها ترجوه أن يتركها ليغير ثيابه ويغتسل قبل الغداء، فيعترض ويقول إنه لم يشبع منها بعد، فماذا حدث حتى صام عن ذلك الحب كل هذا الزمان.
وهذه المحكمة لقد تغيرت كثيراً، فطالما أتت إليها مع والدتها، لم تكن بهذه الفخامة، حدثتها نفسها وهي تجوب بعينيها المكان الذي تغير بحيث لم تعد تذكر في أي جزء منه كانت تقف مع والدتها بينما كان يبتعد هو بنظره عنهما، ربما كان يخشى إن نظر إليها أن لا يقاوم رغبته بحملها ومداعبتها فيظهر أمام طليقته بمظهر الضعيف، هكذا أوجدت له عذراً لاهماله لها بأنه يحبها كثيراً، غريب هو قلب الإنسان لا يعجزه أن يجد أعذاراً لأحبائه. بهذا المنطق تابعت حياتها مؤمنة بحبه لها.
كبرتُ أبي، مررت بمحطات العمر واحدة فأخرى وأنا أمني النفس بأني سأجدك بانتظاري على رصيف التالية، ودائماً لا تكون هناك فأمتطي سنواتي وأتابع المسير، ولكن الآن لا يمكنني ذلك عليك أن تأتي فالعمر لن يتوقف ولكن حياتي لن يسمح لها بالاستمرار إلا بإذنك، فهل ارتضيت لي عمراً بلا حياة، لماذا رفضت مقابلة كل من تقدموا لخطبتي.
في أول مرة عندما طلبت منهم أن يتوجهوا إليه ليطلبوها منه لم يخطر ببالها قوانين ولاية الأب، بل لم تكن تعرف بوجودها، ولكن أحلامها أخذتها إلى أنه يتحرق شوقاً إليها، ولكنه امتنع عن زيارتها لأنها تعيش مع أسرة أمها، فإن ذهب إليه العريس ليخطبها وجدها فرصة ليزورها، أو ليلقاها بأي مكان ليسألها عن رأيها.
وربما يرجوها أن تقبل الزواج حتى تكون بمنزل يستطيع فيه زيارتها في كل وقت، هكذا فكرت ورسمت الأحداث التالية، ولكن الهاتف الذي صدح برنينه بعدها بدقائق أخبرها بما لم تصدقه، رفض والدها استقبال العريس، وقال لهم إنه لاعلاقة له بالأمر!!.
تجمد تفكيرها بل لم تعد إلى الحياة إلا بعد أن قادها قلبها أن رده كان طريقة دبلوماسية لرفض من لم يجده كفأً بابنته، وكان ذلك يتكرر مرة بعد أخرى، وهي تصم آذانها عن تعليقات أمها وخالتها، بل أهملت حتى الصوت الذي كان يصيح بداخلها أن استيقظي.
لقد نسيك، إنت جزء من أمك، الماضي الذي يتوسل ذاكرته أن تسقطه من زمانه وحياته. بل حتى شقيقتها الصغرى فهمت، هي وحدها أعطت لنفسها القدرة الحصرية على الولوج إلى قلب والدها، فما أدرى تلك الصغيرة التي لمَ غادرت ذلك الحب والقلب الكبير وهي لاتزال في المهد.
قبل شهرين طرق بابها آخر، لا تذكر من تفاصيل وجهه إلا عينان يحتضنان كل ما يقابلهما بحنان، مجرد وجوده يغمر قلبها بالأمان، فقالت له نعم وقررت أن لن تسمح لقلبها البكر بمعاودة السكون بعد أن عرف ضجيج الحياة. وأرسلت لوالدها كل من يمكن أن يؤثر عليه ويقنعه بأن يزوجها لمن اختارت.
ولكن عبثاً، حتى لم يبق لها إلا أن تأتي إلى محكمة أبوظبي لترفع دعوى "عضل الولي" لتعزل والدها عن ولاية أمرها بعد أن تعسف باستعمال هذا الحق في منعها من الزواج مرة بعد أخرى، وعندما تم تحويلها إلى التوجيه الأسري تم تحديد هذا الموعد لتعرف ما قاله والدها وتعطي رداً عليه، وهاهم ينادون على اسمها الذي اختصر في مقاطعه الثلاثة مايجمعها به.
عند القاضي كانت تقاوم دمعة تطل من مقلتيها وهي تروي قصتها فتبدأ بتقديم الأعذار له قبل كل لقطة تقتطفها من حياتها، وكانت نظرات القاضي تشفق عليها، أو ربما تتوسلها أنك تصعبين علي مايجب أن أقول، فها هو لم يتحمل أن يسمع باقي القصة بالطريقة التي تعودت أن تحكيها فقاطعها أن يا ابنتي لا أعرف كيف أقول هذا ولكن أبيك يشترط أن تتنازل والدتك عن حق شقيقتك الصغيرة بما يدفع لها من نفقة مقابل أن يعطي لخالك توكيلاً بتزويجك!!.
(ضمن التعاون القائم بين صحيفة البيان ودائرة القضاء في أبوظبي، تنشر الصحيفة صباح كل أحد قصص من أروقة القضاء بهدف نشر الوعي بين أفراد المجتمع)
انتحار
في لحظة واحدة صمت كل شيء، وكأن كل ذكرياتها لم تكن سوى ستار تهتك حامله حتى سقط، وظهر خلفه عالم آخر طالما غيبته بإرادتها، فعادت بكل ثقلها نحو مسند كرسيها وقالت بهدوء، حسناً نحن موافقون، أين تريدني أن أوقع، ثم رسمت اسمها الأول فقط على الأوراق بجانب توقيعها، وما إن استدارت حتى سمحت لدمعتها بالهطول، فقد شهدت للتو انتحار والدها من أعلى قمم حلمها.
