ريبورتاج

قناة السويس تاريخ مصر الحي وشريان السلام والرخاء

ت + ت - الحجم الطبيعي

قناة السويس أو كما يطلق عليها المصريون «شريان الحياة»، لا تعتبر ممراً مائياً فقط بقدر ما تعد تاريخ ومستقبل مصر، حيث قدم المصريون حياتهم وأعمارهم في سبيل تحقيق هذا الحلم.

حيث إنه ليست هناك أسرة مصرية اليوم إلا وأحد جدودها شارك في حفر القناة، واستشهدوا أثناء عملهم، وقدموا أرواحهم ثمناً لحفر القناة، وأصبحت رمزاً للإرادة الوطنية والاستقلال الوطني، إلى أن أقدم الزعيم جمال عبدالناصر على اتخاذ القرار التاريخي بتأميم القناة في عام 1956.

«أُعلن لابن هذه الأرض الطيبة، الذي شق القناة بعرقه ودموعه، همزة للوصل بين القارات والحضارات، وعبرها بأرواح شهدائه الأبرار، لينشر السلام والأمان على ضفافها، يعيد فتحها اليوم للملاحة من جديد، رافداً للسلام وشرياناً للازدهار والتعاون بين البشر»، كلمات خالدة قالها الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات في الخامس من يونيو من العام 1975 في خطابه التاريخي، بمناسبة إعادة افتتاح القناة وعودة الملاحة فيها.

وفي السادس من شهر أغسطس من العام 2015، وجّه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، رسالة للعالم، لدى افتتاح قناة السويس الجديدة، قائلاً: «نهدي للعالم شرياناً إضافياً للرخاء، وقناة تواصل حضاري بين الشعوب، لتسهم في تيسير وتنمية حركة الملاحة الدولية، وتفتح آفاقاً جديدة للتنمية، وتشارك في تحقيق آمال وطموحات شعب مصر العظيم، الذي أنجز هذا المشروع بعقول أبنائه وقوة سواعدهم ومدخرات أموالهم».

وما بين الماضي والحاضر والمستقبل، تاريخ طويل لأطول ممر مائي في العالم، وشريان التجارة العالمية الحيوي، لم يكن هذا التاريخ وليد لحظة افتتاحها الأولى في العام 1896 بعهد الخديوي إسماعيل، بل إن جذور القناة ضاربة في عمق التاريخ المصري، عندما كانت فكرة ربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض حاضرة في ذهن قدماء المصريين، الذين أنجزوا خطوات شاهدة على عظمتهم، وإدراكهم لأهمية وجود ممر مائي، يربط الشرق بالغرب، استغلالاً للموقع الاستراتيجي الفريد الذي حبا الله به مصر.

ومنذ العام 1878 (ق.م) بزغت إرهاصات الفكرة الأولى، وشهدت القرون التالية تطورها إلى أن صارت «قناة السويس» بشكل الحالي، كونها ممراً استراتيجياً للملاحة البحرية يربط بين آسيا وأوروبا، شهد جملة من مشروعات التطوير المتواصلة إدراكاً لأهميتها كونها شرياناً للخير والازدهار.

القناة التي يمر عبرها 10 في المئة من إمدادات النفط العالمية، وتستأثر وحدها بـ 12 في المئة من حركة التجارة العالمية، و30 في المئة من حركة الحاويات العالمية، وتعبرها يومياً 50 ناقلة.

وما قيمته 9.6 مليارات دولار من البضائع، فضلاً عن 1.9 مليون برميل نفط يومياً تقريباً، أربكت حسابات التجارة العالمية كلها، عندما توقفت حركة الملاحة فيها لأيام قليلة، بعد حادث جنوح سفينة الحاويات «إيفرغيفن» في 23 مارس 2021، بما يؤكد مدى أهميتها للعالم كونها ممراً محورياً.

شهدت القناة خلال السنوات الماضية جملة من مشروعات التطوير، وفق استراتيجية طموحة، تتحول معها القناة من معبر تجاري إلى مركز صناعي ولوجستي عالمي، كونها إضافة قوية للقناة، التي تعتبر أسرع ممر بحري بين أوروبا وآسيا، وتوفر نحو 15 يوماً في المتوسط من وقت الرحلة، التي تقطعها الناقلات عبر طريق رأس الرجاء الصالح.

تاريخ القناة

شق قناة تربط البحرين الأحمر والأبيض كان حلماً مصرياً قديماً، تحقق في عهد الخديوي إسماعيل، الذي افتتحها في 17 نوفمبر 1869، تبنى ذلك الحلم قبل ذلك بقرون الملك سنوسرت الثالث (1878 ق.م)، الذي ربط البحرين عبر طريق غير مباشرة، وذلك من خلال النيل وفروعه.

وكان هدفه آنذاك تسهيل الطريق التجاري بين الشرق والغرب، لتمر السفن من البحر الأبيض المتوسط، عبر النيل حتى الزقازيق، وصولاً إلى البحر الأحمر عبر «البحيرات المرّة»، التي كانت تتصل بالبحر الأحمر آنذاك.

أدرك المصري القديم قيمة «المكان»، فأنارت برأسه فكرة الربط بين البحرين، مستشرفاً آفاق الازدهار والتنمية والخير، الذي يدره ذلك الربط على مصر والعالم، فكان حلم القناة- التي تعتبر حالياً من بين خمسة مصادر مستدامة للدخل القومي في مصر- أحد المشروعات المُهمة بالنسبة للفراعنة.

في العام 610 (ق.م) وبعدما أُهملت القناة الوليدة الرابطة بين البحرين عبر التفريعات النيلية والبحيرات المرة، حتى تشكل سداً أرضياً عازلاً للبحيرات المرة عن البحر الأحمر، سعى الفرعون نخاو الثاني (أحد فراعنة الأسرة الـ 26) لإعادة شق القناة، وتمكن من وصل النيل بالبحيرات المرّة، بينما لم يستطع وصل البحيرات المرة بالبحر الأحمر من جديد.

وهو ما نجح فيه دارا (ملك الفرس) في العام 510 (ق.م) بشكل محدود، والذي تمكن من ربط البحر الأحمر بالبحيرات المرة عبر قناة صغيرة غير صالحة للملاحة إلا في موسم الفيضان، حتى جاء بطليموس الثاني، وفي 285 (ق.م) تمكن من إنجاز المهمة، وإعادة الملاحة بشكل كامل بعد الربط بين البحر الأحمر والبحيرات المرة.

شهدت القناة تطورات متواصلة منذ ذلك الحين؛ ففي العام 98 م حفر الرومان قناة جديدة تبدأ من القاهرة (وتحديداً من منطقة فم الخليج)، وفي العهد البيزنطي أُهملت القناة تماماً حتى عادت غير صالحة للملاحة. 

وبعد الفتح الإسلامي، أعاد عمرو بن العاص، وتحديداً في العام 641 م، الملاحة للقناة، وأطلق عليها آنذاك اسم (قناة أمير المؤمنين)، وقد كان يفكر في ربط البحرين مباشرة.

لكن حالت مخاوف غرق مصر بمياه البحر الأحمر دون شق تلك القناة، إلى أن جاء الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، وتحديداً في العام 760 م وردم القناة خشية أن يتم استخدامها في تمويل أهل مكة والمدينة الثائرين آنذاك عليه، فتعطلت تلك القناة 11 قرناً، وفي العام 1820 أعاد محمد علي باشا (مؤسس مصر الحديثة) إصلاح جزء منها للري. 

ظل حلم ربط البحرين يراود المصريين، كونها رسالة سلام للعالم وقيمة حضارية، تربط من خلالها مصر العالم عبر قناة تربط الشرق والغرب، إلى أن بدأ ذلك الحلم يتحقق، وكانت أولى الخطوات العملية في 30 نوفمبر 1854 عندما صدر فرمان بمنح فرديناند ديلسبس حق إنشاء شركة لشق قناة السويس. 

سعى السياسي الفرنسي إلى إقناع حكام مصر لفترة طويلة بالفكرة، فرفضها عباس باشا (حاكم مصر بين عامي 1848 – 1854)، إلى أن استطاع البدء في تنفيذ المشروع بعهد سعيد باشا (حاكم مصر من 24 يوليو 1854 إلى 18 يناير 1863)، بعد أن وضع مشروعاً متكاملاً في العام 1840 لشق قناة بشكل مستقيم، تربط البحرين الأبيض والأحمر، فنّد ونفى فيه المخاوف السائدة من ارتفاع منسوب البحر الأحمر. 

وبفضل قرابته من سعيد باشا، تمكن ديلسبس من الحصول على فرمان لحفر القناة كان مكوناً من 12 بنداً، من بينها أن تكون مدة الامتياز 99 عاماً من تاريخ افتتاح القناة، وأن يكون 80 في المئة من العمال من المصريين، وبعد فرمان الامتياز الثاني، تأسست الشركة العالمية لقناة السويس البحرية 15 ديسمبر 1858 برأس مال 200 مليون فرنك.

تضحيات المصريين

وعلى رغم اعتراضات انجلترا والباب العالي، أنجز المشروع الضخم في الفترة بين 1856 وحتى العام 1896، قدّم خلالها المصريون واحدة من بطولاتهم وتضحياتهم، بعد أن حفروها بالعرق والدم، في ملحمة تاريخية مصرية فريدة، بعدما سيق الآلاف إلى الحفر مقيدين بالحبال، قاطعين طرقاً صحراوية من الزقازيق وحتى القناة سيراً على الأقدام. التقديرات التاريخية تقول إن 1.5 مليون مصري عملوا في حفر القناة، وإن 120 ألف عامل ماتوا أثناء الحفر. 

في حفل أسطوري ضخم حضره قرابة الستة آلاف مدعو وبلغت تكلفته الإجمالية نحو 1.5 مليون جنيه (رقم هائل في هذا التوقيت)، تم افتتاح القناة في عهد الخديوي إسماعيل، وتلاقت مياه البحرين، وبدأت مسيرة قناة الخير ونبض مصر، وبدأ شريان الخير يضخ بمرور أول سفينة في القناة في يوم الافتتاح نفسه، وهي السفينة «ايغيل»، وكانت تحمل على متنها كبار المدعوين، تتبعها 77 سفينة منها 50 سفينة حربية.

أصبحت القناة تحت سيطرة فرنسا وإنجلترا، بنسبة 56 في المئة لفرنسا و44 في المئة لإنجلترا، بعد أن باعت مصر في فبراير 1875 لرئيس وزراء بريطانيا 44 في المئة من مجموع أسهم شركة القناة، والتي كانت تمنح مصر 31 في المئة من إجمالي أرباح الشركة، وتنازلت في 1880 للبنك العقاري الفرنسي عن حقها في 15 في المئة من أرباح الشركة مقابل 22 مليون فرنك.

وبعد الاحتلال الإنجليزي لمصر، استولت بريطانيا على مرافق الشركة. 

تأميم القناة

فيما يظل السادس والعشرين من شهر يوليو 1956، أحد أهم التواريخ في تاريخ قناة السويس، وفي تاريخ مصر بشكل عام، عندما أعلن الرئيس المصري جمال عبد الناصر عن تأميم قناة السويس، ما عرض مصر لهجمات شرسة من الدول الغربية،

إلى أن شن العدوان الثلاثي على مصر من 31 أكتوبر حتى 22 ديسمبر 1956، ما أسهم في غلق القناة، قبل أن يعاد افتتاحها في 29 مارس 1957 واستئناف حركة الملاحة فيها.

لتبدأ بعد ذلك سلسلة من المشروعات بالقناة بعد العدوان؛ أهمها مشروع ناصر، لزيادة القطاع المائي والغاطس المسموح به للسفن العابرة، ووصول أسطول من الكراكات، وغير ذلك من المشروعات، حتى شهدت القناة في 1962 عبور أضخم ناقلة نفط آنذاك وهي «مانهاتان»، وعدد آخر من السفن الضخمة، وفي الثامن من شهر أكتوبر 1962 احتفلت القناة بمرور السفينة رقم 100 ألف منذ تأميمها.

تعرضت القناة للإغلاق أكثر من مرة، إلى أن أعادها الرئيس الراحل أنور السادات في 1975، وبعدها وتحديداً في العام 1979 بدأ حفر تفريعة التمساح، ما أدى- مع التفريعات الأخرى- لازدواج المجرى الملاحي بمسافة 68 كيلو متراً (من إجمالي 179 متراً إجمالي طول المجرى).

خصائص ملاحية فريدة 

في عهد الخديوي إسماعيل، وعند افتتاح القناة، كان طولها 164 كيلو متراً وعرضها 52 متراً، وعمقها سبعة أمتار ونصف، وغاطس السفن المسموح به للعبور لا يزيد على 22.5 قدماً، وكانت الملاحة تقتصر على ساعات النهار فقط.

وقد شهدت القناة تطورات متتالية حتى صار طولها الآن نحو 193 كم، بدءاً من ميناء بورسعيد ووصولاً إلى السويس ويصل عرضها إلى 180 متراً، وعمقها 24 متراً وأقصى غاطس مصرح به لعبور السفن 66 قدماً، وتضم ثلاث بحيرات طبيعية على طول المجرى الملاحي، وتعتبر أطول ممر مائي في العالم.

وفي العام 2015، أجرت الحكومة المصرية عملية توسيع للقناة عمقت الممر المائي الرئيسي، كما أنشأت قناة موازية بطول 35 كيلو متراً، لتسمح القناة، من خلال ذلك بالعبور المباشر لمتوسط 49 سفينة في الاتجاهين، وقل زمن عبور السفن إلى 11 ساعة بدلاً من 18 ساعة.

وفي السنوات الأخيرة، شهدت قناة السويس نقلة نوعية هائلة ومزايا استثمارية، تحولت معها من معبر تجاري إلى مركز صناعي ولوجستي عالمي، لتحقق مؤشرات ونتائج «مُبهرة» حتى على رغم الظروف، التي مرت بها التجارة العالمية في العام 2020 مع انتشار جائحة «كورونا»، تزامن مع ذلك استراتيجية تطوير مستمرة تشمل «تطوير الأسطول وصيانة المجرى الملاحي».

من معبر تجاري لمركز لوجستي 

وبناء على أهمية القناة ومركزها الاستراتيجي العالمي، تبنت الدولة المصرية استراتيجية تحويل القناة من معبر تجاري إلى مركز لوجستي عالمي.

وذلك عبر الهيئة العامة لتنمية المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، التي تأسست في 2015 كهيئة حكومية، تتولى إدارة وتنفيذ مشروع محور قناة السويس بصفة منفصلة عن هيئة قناة السويس، تمتلك صلاحيات وسلطات كاملة على محور قناة السويس في كل ما يتعلق بكل الأنشطة والمشروعات المقامة داخل الإطار الجغرافي للمشروع دون تدخل من المحافظات، التي تقع في نطاقها تلك المشروعات. 

وتدير القناة- التي يتولى تأمين محورها الملاحي الجيش الثالث الميداني- هيئة قناة السويس، وهي هيئة عامة مستقلة، أنشئت في 26 يوليو 1956 تتبع رئيس مجلس الوزراء، وتتولى القيام على شؤون مرفق قناة السويس وإدارته واستغلاله وصيانته وتحسينه، وتختص دون غيرها بإصدار اللوائح المتعلقة بالملاحة في قناة السويس، وغير ذلك من اللوائح التي يقتضيها حسن سير المرفق، وتقوم على تنفيذها.

 
Email