أوروبا نحو إعادة التموضع بعيداً عن «الحسابات الأمريكية»

حقبة جديدة للعلاقات الصينية الأوروبية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعثت الزيارات المتتالية لقادة ومسؤولين أوروبيين إلى الصين أخيراً، بعددٍ من «الرسائل المزعجة» للولايات المتحدة.

في ظل ما تُبديه بعض الأصوات الأوروبية من رغبة عارمة في «الخروج من التبعية» لواشنطن، وهو ما عبّر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تصريحاته الأخيرة لدى عودته من زيارته لبكين، وقد أثارت تصريحاته -ولا تزال- جدلاً واسعاً.

ولا تُخفي دول أوروبية حقيقة رغبتها في إعادة التموضع بعيداً عن «الحسابات الأمريكية»، لا سيما بعد الحرب في أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا.

وفي ظل ما واجهته دول القارة العجوز من صعوبات وأزمات متزامنة، تضررت بها اقتصادات هذه الدول بشكل كبير، بينما سعت واشنطن للاستفادة بشكل أو بآخر من الأزمة من خلال بيع الغاز بأسعار مضاعفة لأوروبا، وهو ما كان محل انتقادات ألمانية وفرنسية واسعة خلال العام الماضي.

وفي ظل الأزمات التي تعيشها دول القارة العجوز تسارع مسؤولين أوروبيين إلى الصين، آخرهم وزيرة الخارجية الألمانية، في زيارات حملت في ظاهرها «قضية أوكرانيا» بشكل أساسي.

وفي ضوء ما يُمكن وصفه بـ «المبادرة الصينية» لإنهاء الحرب، لكنها لم تخف الرسائل الاقتصادية الواسعة، انطلاقاً من أهمية الصين كشريك تجاري رئيسي، حتى إن الرئيس ماكرون قد اصطحب لفيفاً من رجال الأعمال الفرنسيين خلال زيارته للصين، سعياً لبناء وتعزيز شراكة اقتصادية متوازنة.

يأتي ذلك في ضوء ما تمثله الصين من أهمية اقتصادية وتجارية بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي، وهو ما تعكسه الأرقام الخاصة بحجم التبادل التجاري بين الجانبين، والذي ارتفع بنسبة 23 % خلال العام الماضي، وصولاً إلى 856.3 مليار يورو، وفق بيانات يوروستات. وسبق وأن أطاحت بكين بالولايات المتحدة لتحظى بمكانة الشريك التجاري الأول لدول الاتحاد الأوروبي.

فهل ستتمكن دول الاتحاد الأوروبي من الابتعاد عن المظلة الأمريكية؟ وكيف توازن القارة العجوز بين العلاقات مع واشنطن وبكين؟ وهل يتسبب الانكشاف الأوروبي على الاقتصاد الصيني مشكلات عميقة للقارة العجوز؟ وما مدى احتمالية أن تذهب أوروبا -تحت ضغوطات أمريكية- لفك ارتباطها ببكين؟

زيارات متكررة

يقول المحلل السياسي من برلين، أستاذ العلاقات الدولية، عبدالمسيح الشامي، في تصريحات خاصة لـ «البيان»: إن «الزيارات المتكررة من الدول الأوروبية إلى الصين في الآونة الأخيرة وبالتحديد بعد زيارة الرئيس الصيني إلى موسكو هي مرتبطة بشكل مباشر بهذه القمة (الصينية الروسية) وما أطلق خلالها من مواقف وتصريحات وما تم توقيعه كذلك من اتفاقات».

معتبراً أن التصريحات التي تم إطلاقها شكّلت إعلاناً من قبل الصين عن الدخول بشكل أو بآخر في المواجهة الحاصلة اليوم بين روسيا والغرب ككل، لا سيما مع حديث الرئيسين الصيني والروسي عن قدرة ورغبة كل منهما في تغيير العالم، وكذلك التصريحات المرتبطة بالدور السلبي للغرب في الهيمنة وإلى ما هنالك.

كل ذلك كانت له ظلال إلى حد ما تثير القلق في الاتحاد الأوروبي وفي الغرب عموماً، خاصة أن أوروبا اليوم تعيش أزمات خانقة نتيجة الحرب في أوكرانيا وسياسة العقوبات التي انعكست سلباً وبشكل كارثي ومأساوي على الداخل الأوروبي أكثر منه على روسيا.

أزمات مختلفة

يشير الشامي إلى أن «أوروبا تعيش أزمات مختلفة بعد ما يقرب من عام ونصف من الحرب، ومع تلك الأزمات الخانقة لم يبق أمام الأوروبيين سوى الصين التي تلعب دوراً أساسياً لا يقل -إن لم يزد- عن الدوري الروسي فيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية، وبالتالي فإن أية أزمة أو توتر بين الصين وأوروبا أو الغرب عموماً وبشكل حتمي قد تؤدي إلى انهيار الاتحاد الأوروبي.

ولذلك هناك فزع حقيقي من أي توتر، وربما جاءت الزيارات المكوكية الأوروبية إلى بكين وهذه المرونة في المواقف من قبل الرئيس الصيني ووزيرة خارجية ألمانيا أخيراً وتأكيد الرغبة في إعادة تموضع الاتحاد الأوروبي بعيداً عن الولايات المتحدة، استرضاءً للصين ولكسب ودها وولائها».

سعى المسؤولون الأوروبيون خلال الزيارات المتكررة إلى بكين للتأكيد على أن دولاً أوروبية «لن تكون بعد الآن في المواجهة مع الصين أو تصطف مع واشنطن». ويوضح أستاذ العلاقات الدولية من برلين أن «الصين تمثل الشريك الأساسي للتكتل الأوروبي، وارتفع حجم الشراكة بين الطرفين بعد الحرب في ضوء رغبة أوروبا في تعويض ما ينقصها من الإمدادات الروسية».

يأتي ذلك في وقت تواجه فيه دول القارة تحديات داخلية وخارجية متزامنة، دفعت بها بشكل مباشر للتعاطي بشكل إيجابي مع الصين ومحاولة كسب ودها.

ولا يعتقد الشامي بأن العلاقات الأوروبية الأمريكية من شأنها أن تؤثر على هذا التوجه الأوروبي، إذ يعتبر أن «العلاقات بين القارة العجوز وواشنطن أصبحت مهزوزة، ولم تعد بالمتانة ولا بالأهمية التي كانت عليها قبل الحرب، على أساس أن تلك العلاقات أصبحت ثقلاً مكلفاً على الأوروبيين، هذه الحرب رغم خطورتها لكنها كلفت أوروبا كثيراً.

وتكاد الكلفة تقترب من كلفة الحرب العالمية الثانية من الناحية الاقتصادية، حتى إن الولايات المتحدة لا تريد تعويض أوروبا بمصادر الطاقة التي فقدتها، وحوّلت المسألة لقضية ابتزاز وتحصل على أسعار مضاعفة من أوروبا لتوريد الطاقة».

إعادة التموضع

ويتابع الشامي: «إن أوروبا مضطرة اليوم، بناءً على تلك المعطيات، لإعادة تموضعها بعيداً عن الولايات المتحدة، سواء شاءت الأخيرة أم أبت ذلك.. رغم أن الاستقلال الأوروبي سيكون مكلفاً.. لكن هذا مهم لأوروبا إن أرادت النجاة في خضم ما يجري اليوم من تحولات كبرى في العالم وتغيرات في موازين القوى والخارطة السياسية والاقتصادية والعالمية».

وكان الرئيس الصيني شي جين بينغ، قد اعتبر أن الزيارات الأوروبية الأخيرة «تظهر الرغبة الإيجابية للاتحاد الأوروبي في تنمية العلاقات مع الصين.

وتعزز المصالح المشتركة للصين والاتحاد الأوروبي». بينما وصفت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين -خلال زيارتها الأخيرة للصين- العلاقات بين الجانبين بأنها «معقدة» وأن «كيفية إدارتنا لهذه العلاقات ستكون عاملاً حاسماً في ازدهارنا الاقتصادي في المستقبل».

أثر العقوبات

خبير الشؤون الأوروبية من بروكسل، محمد رجائي بركات، يقول في تصريحات خاصة لـ «البيان»، قال إنه قبل الحرب في أوكرانيا تبنى حلف الناتو خطة عمل للأعوام العشرة المقبلة.

كان عنوانها مواجهة روسيا والصين، بينما الآن تغيرت الأوضاع، خاصة بعد أن تبين لعديد من المسؤولين الأوروبيين، خاصة الرئيس الفرنسي، أن الاستمرار في السير وراء السياسة الأمريكية إزاء روسيا والصين سيتسبب في الكثير من المشاكل لدول الاتحاد الأوروبي، خاصة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية «فقد وجدنا أن العقوبات التي فرضت على روسيا كانت لها آثار سلبية تأثرت بها أوروبا بشكل كبير، وربما أثرت عليها وعلى اقتصادياتها أكثر من تأثيرها على روسيا».

ويلفت بركات إلى أن «الولايات المتحدة لديها مصلحة في تعقد العلاقات بين روسيا والصين من جهة ودول الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، كي تستمر (واشنطن) في بيع الغاز والنفط الأمريكي إلى أوروبا بأسعار مضاعفة، وبالتالي ظهرت بعض الأصوات في أوروبا تنادي بالاستقلال عن القرار السياسي الأمريكي الذي أدى إلى أضرار واسعة على أوروبا».

استراتيجية جديدة

في تصور خبير الشؤون الأوروبية من بروكسل، فإن «الولايات المتحدة بالطبع لن تكون راضية عن خروج الاتحاد الأوروبي من مظلتها سياسياً..

هذا سيؤدي بالطبع إلى مشاكل بين الجانبين.. الولايات المتحدة تعارض بشدة ما يطالب به الرئيس الفرنسي بشأن الاستقلال عسكرياً، ومحاولة أن تكون هناك استراتيجية أوروبية لتقوية القدرات العسكرية لدول الاتحاد الأوروبي كي تستقل نوعاً ما ولو نسبياً عن الناتو والمظلة الأمريكية».

على الجانب الآخر، فإن بعض الدول مثل بولندا وغيرها -خاصة من الدول التي كانت في السابق ضمن الاتحاد السوفييتي- لديها رغبة في البقاء تحت المظلة الأمريكية، لشعورها بأن الاتحاد الأوروبي لن يكون قادراً على تشكيل قوة عسكرية خلال السنوات المقبلة، وفق بركات، الذي يختتم تصريحاته بقوله: «السؤال المطروح هو:

هل ستتمكن دول الاتحاد الأوروبي من الابتعاد عن المظلة الأمريكية؟ السنوات القادمة -ولا أعتقد الأشهر المقبلة- سوف تكشف عما إذا كان ذلك ممكناً، ولكن لا أعتقد ذلك».

وتدعو بكين القادة الأوروبيين إلى «التمسك بفهم موضوعي وصحيح للصين، والالتزام بمكانة الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين والاتحاد الأوروبي»، طبقاً لما أكده الرئيس الصيني أخيراً.

فك الارتباط

بينما تشهد العلاقات بين أوروبا والصين نمواً واسعاً، فإن «الولايات المتحدة تسعى جاهدة إلى فرض كل ما تستطيع من ضغوطات على الاتحاد الأوروبي ككتلة أو حتى كدول تريد التمرد على الموقف الأمريكي فيما يخص العلاقات التجارية والتبادل التجاري؛ وذلك من أجل دفعها إلى فك الارتباط مع الصين»، بحسب خبير الشؤون الآسيوية الدكتور جلال رحيم.

ويضيف رحيم في تصريحات خاصة لـ «البيان»: «ليس هناك قرار أوروبي جماعي وموحد بفك الارتباط مع الصين، ولن يكون.. حتى وإن كان هناك قرار فهو أمر خيالي حتى من الناحية اللوجيستية ولا يمكن تطبيقه قبل 20 أو 30 سنة؛ بحكم التبادل التجاري وعدد الشركات الأوروبية المهول التي تعمل في الصين».

علاقات وطيدة

لاشك أن العلاقات الصينية الأوروبية وطيدة منذ زمن طويل، وليست وليدة الساعة، وقد أخذت في التطور منذ عدة عقود، في الشق الاقتصادي تحديداً، والذي شهد تطوراً كبيراً خلال العقدين الماضيين، وهو ما يشير إليه الكاتب الصحافي والمحلل السياسي من برلين، محمد الخفاجي، في تصريحات خاصة لـ «البيان».

والذي يتحدث عن ألمانيا على سبيل المثال، والتي ارتفع حجم التبادل التجاري بينها وبين الصين إلى ما يصل إلى قرابة الـ 300 مليار دولار (تعد الصين أكبر شريك تجاري لألمانيا خلال السنوات السبع الماضية).

ويضيف الخفاجي: «يعكس ذلك جانباً من مدى الترابط الاقتصادي بين الصين وألمانيا»، مشيراً في الوقت نفسه إلى الاستثمارات الألمانية في الصين، على غرار مشروعات القطارات (عالية السرعة).

والتي تعد من أضخم مشاريع البنى التحتية، إضافة إلى التعاون في مسألة الرقائق الإلكترونية وغيرها من الأمور، ضمن التبادلات القوية بين البلدين.

ويلفت إلى أن الصين تعد سوقاً اقتصادية كبيرة جداً تطمع أن تحصل عليها كل دول العالم ليست أوروبا فقط، فبكين هي مستهلك كبير ومنتج كبير، وبالتالي فإن التبادل الاقتصادي مع هذا البلد مربح جداً، وبالتالي نجد أن الأوروبيين يتجهون بشكل كبير إلى هذا الواعد الاقتصادي ويحاولون التقرب منه ومد جسور العلاقات بشكل أكبر.

وهذا ما يواجه بحالة من عدم الرضا من جانب الولايات المتحدة فيما يخص تطور العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، رغم أن واشنطن نفسها تمتلك علاقات اقتصادية قوية جداً مع بكين، لكنها ترفض أن تعتمد أوروبا على بكين (سجلت التجارة بين الولايات المتحدة والصين 690.6 مليار دولار أمريكي في العام 2022).

ويشدد على أن ثمة رسائل متبادلة بين الصين والولايات المتحدة في هذا السياق، فالأوروبيون يحاولون طمأنة واشنطن من أن العلاقات مع الصين لن تكون على حساب علاقاتهم مع الولايات المتحدة..

«كما نجد أن بعض الجهات أو المؤسسات أو الأحزاب السياسية التي هي أقرب إلى الولايات المتحدة في أوروبا قد بدأت تتحدث عن ضرورة أن تكون العلاقات مع الصين محددة ولا تكون مطلقة، بحيث يؤثر ذلك على علاقات أوروبا مع الآخرين».

Email