بعد عام على الحرب الروسية الأوكرانية.. ما الذي يحمله العام الثاني من تطورات؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

شكّل تاريخ الرابع والعشرين من شهر فبراير العام الماضي زلزالاً مدوياً ملأت أصداؤه وتبعاته العالم بأسره، إذ لم تكن العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانياً إلا إيذاناً ببدء مرحلة جديدة وحاسمة على شتى الصُعد حول العالم، سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً، وهي مرحلة حُبلى بالمتغيرات التي تضع العالم أمام تحديات وصراعات متشابكة.

شهد العام سلسلة من التطورات على الصعيدين الميداني والسياسي ضمن وقائع وتطورات «الحرب»، بينما العالم يحبس أنفاسه انتظاراً لمآلات وسيناريوهات ذلك الصراع الدائر في أوكرانيا، بين الجنوح لحل سياسي مُتمنّى عبر طاولة الحوار، لكنه قد يكون بعيداً في ضوء المعطيات الراهنة التي لا توحي بأي تقدم في هذا السياق، وبين مختلف سيناريوهات التصعيد المُرجحة باختلاف مداها وخطورتها.. فما الذي يحمله العام الثاني من تطورات؟

يرسم سياسيون ومحللون في تصريحات متفرقة لـ«البيان» سيناريوهات الصراع الدائر والخلافات الجيوسياسية القائمة بين روسيا من ناحية، والغرب والولايات المتحدة من الناحية المقابلة، منطلقين من قاعدة مشتركة، وهي أن «استمرار الحرب لا يخدم أياً من الأطراف» في ظل الكلفة الهائلة التي يتحملها العالم جراء التصعيد، كما يشرحون التطورات المحتملة بمواقف الأطراف المنخرطة بالصراع، ولا سيما الجانبين الأمريكي والأوروبي.

تطورات ميدانية

في البداية، يقول المدير العام لمركز التحليل السياسي والبحوث الاجتماعية، السياسي الروسي بافل دانيلين، في تصريحات خاصة لـ«البيان»: إن «موقف روسيا سيبقى على حاله.. نحن لسنا في حالة حرب مع الشعب الأوكراني، إنما نقوم بعملية خاصة لتدمير النازية (وهو المصطلح الذي استخدمه الرئيس بوتين في بداية العملية العام الماضي) في أوكرانيا.. هذا يعني أن شكل الحرب لن يتغير كثيراً».

ووفق هذه المعطيات يعتقد دانيلين أنه «لن تكون هناك ضربات على المدن.. سيكون هناك تدمير مستمر لوحدات (العدو) القتالية على خط الجبهة وفي المؤخرة، مع تدمير المستودعات، كما سيستمر تدمير البنية التحتية للطاقة، وعلى الأرجح سيبدأ تدمير البنية التحتية للنقل (محطات السكك الحديدية الفرعية، ومستودعات القاطرات وما إلى ذلك)»، على حد قوله.

وفي ما يتعلق بالوضع ميدانياً، يتوقع السياسي الروسي استمرار التقدم المنهجي نحو الغرب، مردفاً: «سيتم تحرير المناطق المتبقية من مناطق خيرسون وزابوريجيا ودونيتسك، وربما سيكون هناك تحرك في مناطق نيكولاييف وأوديسا ودنيبروبيتروفسك، وبالتأكيد ستكون هناك تعزيزات في خاركيف».

ومع ذلك يشير دانيلين في معرض حديثه مع «البيان» إلى عدد من العوامل التي يمكن معها الحديث عن إنهاء الصراع، العامل الأول في تقديره يرتبط بمدى استقلالية القيادة الأوكرانية، موضحاً أنه «إذا تمكنت كييف من الخروج من إملاءات الولايات المتحدة، فإن احتمالية إنهاء الصراع تزداد بشكل كبير. علاوة على ذلك، فإن احتمال حدوث مثل هذا التطور في الأحداث ممكن فقط في ما يتعلق بحدوث (انقلاب) في كييف». 

وحول موقف الولايات المتحدة الأمريكية وما إذا كان يمكنها «تسليم أوكرانيا» في نهاية المطاف، تابع السياسي الروسي قائلاً: «ربما إذا شعر الرئيس الأمريكي جو بايدن والديمقراطيون أن دعم أوكرانيا سيجعل من المستحيل بالنسبة لهم هزيمة الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية».

سيناريوهات التصعيد 

وأمام معطيات المشهد الحالي يبدو أن السيناريو الأبرز في العام الثاني لما يسميه الرئيس الروسي بالعملية العسكرية الخاصة، هو «استمرار التصعيد بين الطرفين» مع مؤشرات على «ذهاب التصعيد إلى حالة جديدة مختلفة»، طبقاً لما يؤكده من موسكو الكاتب والباحث السياسي الروسي، ديمتري بريجع، في تصريحات خاصة لـ«البيان»، تحدث خلالها عن أهداف روسيا الاستراتيجية في المرحلة المقبلة، مبرزاً في الوقت نفسه تداعيات التسليح الغربي غير المسبوق لأوكرانيا على تفاقم حالة التصعيد.

الهدف الأساسي الآن استراتيجياً بالنسبة لروسيا يتمثل في إتمام السيطرة على المقاطعات الأربع دونباس ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا. ويعتقد المحلل السياسي الروسي أن موسكو «لن تستطيع الآن الذهاب لأبعد من ذلك، إلى كييف مثلاً أو غيرها من المناطق.

حيث بقي الهدف الاستراتيجي حالياً في السيطرة على هذه المقاطعات، وبعدها يُمكن أن يحدث نوع من الهدنة (..) لم يعد حديث الرئيس بوتين مرتبطاً كما كان في بداية العملية بالسيطرة الكاملة عندما كان يخاطب الأوكرانيين للانقلاب على الحكومة الحالية بقيادة زيلينسكي».

ويضيف بريجع: «من الواضح أن مختلف سيناريوهات التصعيد مفتوحة الآن، ولا سيما بعد تعليق الرئيس بوتين معاهدة نيو ستارت (وهي آخر اتفاقية بين موسكو وواشنطن للحد من الأسلحة النووية)، وهذا يعني أننا قد نشهد حالة من التصعيد الخطير في العام الثاني من العملية (..) الرئيس بوتين في خطابه الأخير لوّح أيضاً بالأسلحة النووية، عندما ذكر أن روسيا قد تختبر الأسلحة النووية إذا ما ذهبت الولايات المتحدة لتجربتها، وهذا كذلك نوع من التلويح بأن كل احتمالات التصعيد مفتوحة».

وفي سياق متصل، يشير المحلل السياسي الروسي في معرض حديثه مع «البيان» إلى الانعكاسات المحتملة لهذا المشهد على الداخل الروسي.

لافتاً إلى الانتخابات المحلية التي سوف تُجرى في سبتمبر المقبل «وبكل تأكيد فإن الحزب الحاكم سوف يستفيد من وضع التصعيد بين روسيا والغرب لتوجيه خطاب للداخل». وفي مارس 2024 تجرى الانتخابات الرئاسية التي يُمكن لبوتين الترشح إليها بعد التعديلات الدستورية في عام 2020 (تمهد له الطريق للبقاء في السلطة حتى 2036)، وسوف يعتمد بوتين خطاباً مماثلاً من أجل توحيد صف الشعب الروسي في مواجهة التحديات والعقوبات الغربية.

سيناريوهات الحوار والهدنة

الخبير السياسي الروسي، تيمور دويدار، يشير في تصريحات خاصة لـ«البيان»، إلى أن الصراع الحالي يمكن توصيفه على شقين؛ الشق الأول يرتبط بالصراع بين روسيا وأوكرانيا، الذي يمكن وصفه بـ«الحرب الأهلية»؛ نظراً للارتباط بين الشعبين والتركيبة الإثنية المشتركة، «تلك النوعية من الحروب لا يمكن أن تنتهي بالتفاوض عادة، إما غالب أو مغلوب حال اعتبارها حرباً أهلية تُحسم عسكرياً».

أما الشق الثاني فهو ما يتعلق بالخلافات الجيوسياسية الأساسية بين روسيا من ناحية، والولايات المتحدة وحلفائها من التكتل الأوروبي من ناحية أخرى، وهذا الخلاف في تقدير المحلل الروسي يمكن أن يشهد نوعاً من التفاوض، خاصة مع وجود حوار بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وإن كان محدوداً للغاية دون توافق في وجهات النظر.

موضحاً أن موسكو كانت لديها مطالب رئيسية (مرتبطة بالضمانات الأمنية التي أعلنتها قبل بدء العملية العسكرية)، تضمن معها حماية الحدود الروسية من وجود الناتو ونفوذ الولايات المتحدة، وكذا عدم ضم جورجيا وأوكرانيا لحلف شمال الأطلسي.

لكن تلك المطالب لم يتم الإصغاء إليها حتى بلغ السيل الزبى في الكرملين، ما دفعه للدخول في مناوشات عسكرية يمكن أن تتصاعد إلى أكبر من ذلك، ولا سيما بالنظر إلى أن مفهوم القاعدة العسكرية للأمن في أوروبا قد خُرق عملياً.

ويعتقد المحلل السياسي الروسي أن ما حدث خلال العام الماضي قد لا يمكن وصفه بـ الحرب»، حيث لم تقع عمليات حربية حقيقية، بالتالي الوصف الأنسب «مناوشات عسكرية» مع بعض التقدم من جانب روسيا، التي نجحت في السيطرة على نسبة 20 % من الأراضي الأوكرانية، لكن دون تحقيق أي انتصار استراتيجي حتى الآن.

ويشدد على أن الطرفين (الولايات المتحدة وروسيا) يتفهمان حقيقة أن إطالة أمد هذا الخلاف ليس في صالح أي من الأطراف المتنازعة الثلاثة (واشنطن وموسكو والاتحاد الأوروبي)، بينما بالنظر لحسابات المكسب والخسارة فإن الرابح الرئيسي من هذا الصراع هي الولايات المتحدة. 

شروط متعارضة

وإلى ذلك، يتحدث المحلل السياسي والكاتب الصحافي الروسي أندريه إنتيكوف، في تصريحات خاصة لـ«البيان»، حول شروط متعارضة لدى كل من روسيا وأوكرانيا من أجل الحوار، موضحاً أن كييف تتبنى اشتراطات غير مقبولة بالنسبة لموسكو على الإطلاق، ترتبط بانسحاب القوات الروسية من المناطق المسيطرة عليها في أوكرانيا، وكذا انسحابها من المدن التي تم ضمها رسمياً، وهو سيناريو غير مقبول أبداً من روسيا.

وبينما يلفت إلى أن بلاده منفتحة على الحوار، يشرح في الوقت نفسه اشتراطات موسكو الرئيسية من أجل إنهاء هذا الوضع، وهي الاشتراطات المتعلقة بالضمانات الأمنية التي سبق وأعلنتها، بما في ذلك عدم انضمام أوكرانيا للناتو أو تكتلات أوروبية (ضمان وضع حياد أوكرانيا)، ومن دون الاستجابة لتلك الاشتراطات فإن القتال من المرجح أن يستمر في الفترات المقبلة، ولدى موسكو جاهزية لهذا السيناريو.

ويوضح أنه أمام ذلك المشهد فإن «القتال سوف يستمر»، كما أن المرحلة المقبلة من شأنها أن تسجل مزيداً من العمليات القتالية، مشيراً إلى وجود عدد من العقبات التي يخشاها الرئيس الأوكراني حال ذهابه إلى التفاوض والحوار مع روسيا، ترتبط بشكل مباشر بمستقبله السياسي في السلطة ببلاده، ولا سيما في ضوء الضغوطات التي يواجهها على عدد من الأصعدة.

أجنحة الحرب

ومن جانبه، يلفت الأستاذ بكلية الاستشراق بالمدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، الأكاديمي والباحث السياسي رامي القليوبي، في تصريحات خاصة لـ«البيان»، إلى أن «الوضع لم يتغير نحو الأفضل بعد.. كل المؤشرات الراهنة تؤكد أن بداخل كل الأجنحة الثلاثة (روسيا - أوكرانيا - الولايات المتحدة والغرب) ينتصر حزب الحرب».

ويفسر ذلك بقوله: «في الحالة الروسية كان واضحاً من خلال خطاب الرئيس فلاديمير بوتين الأخير أنه لا يعتزم التوقف، وكذلك بالنسبة لخطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن الأخير، الذي كان واضحاً فيه استمرار واشنطن في دعم كييف عسكرياً وسياسياً واقتصادياً بدلاً من الضغط عليها للجلوس على طاولة المفاوضات».

أما في ما يتعلق بالسلطات الأوكرانية، فإنها في الوقت نفسه «تشعر بثقة مفرطة في نفسها بعد أن تمكنت من تحقيق مجموعة من الانتصارات التكتيكية ضد الجانب الروسي في بعض المحاور، مثل خاركيف وخيرسون»، وبالتالي فإن كل المؤشرات تؤكد استمرار الحرب، سواء كانت حرب استنزاف، أو حرباً ساخنة، أو شيئاً في المنتصف، وفق تعبير القليوبي.

ويستطرد الأكاديمي والباحث السياسي من موسكو، قائلاً: «صحيح أن أي حرب تنتهي بالتفاوض إذا لم يكن أي من الطرفين قادراً على إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر، وهو ما ينطبق على الوضع الحالي، بالتالي فإنه من الضرورة بمكان اللجوء إلى المفاوضات.. إذا كان الطرفان قد وافقا من البداية على إنجاح المفاوضات كان من الممكن أن يتم تجاوز كل هذه المراحل التي تمر بها الحرب»، مختتماً حديثه بقوله: «لكن كل المؤشرات تقول إن ظروف المفاوضات لم تنضج بعد».

أوروبا.. خطوات للوراء

من جانبه، يوضح خبير الشؤون الأوروبية المقيم في بروكسل، محمد رجائي بركات، في تصريحات خاصة لـ«البيان»، أن الخطاب الأخير الذي ألقاه الرئيس الروسي، وأيضاً الكلمة التي ألقاها الرئيس الأمريكي، يؤكدان أن الحرب ستستمر طويلاً، وأنه لا بوادر للخروج من الأزمة ووقف الحرب الجارية حالياً في أوكرانيا.

مشدداً على أن «المبادرة الصينية من الصعب أن يتم تبنيها والموافقة عليها من قبل الجانب الغربي، ذلك لأن الرئيس الأمريكي وأيضاً الرئيس الأوكراني يريدان انسحاب القوات الروسية من كل الأراضي الأوكرانية، بما فيها شبه جزيرة القرم».

بينما بوتين لا يمكن له أن يتراجع الآن، خاصة مع ما أكده خلال خطابه الأخير الذي وجهه إلى الرأي العام الروسي بشكل خاص، وحاول أن يقنع الروس بالاستمرار في دعمه إزاء ما يجري حالياً واستمراره في الحرب على أوكرانيا، وذلك عبر الحوافز الاقتصادية التي أعلنها في الخطاب.

أما بالنسبة للمواقف الأوروبية، فإنه في تصور بركات «ليس بإمكان أوروبا الاستمرار في تقديم الدعم كما يطلب الرئيس بايدن والرئيس زيلينسكي، ولا سيما وأن الأوضاع الاقتصادية في دول الاتحاد الأوروبي صعبة إلى حد ما، وهو ما تؤكده التظاهرات والإضرابات في معظم الدول الأوروبية».

مشدداً على أن تلك الاحتجاجات، وإن كانت لا تشير إلى أن السبب المباشر هو الحرب في أوكرانيا والدعم المالي والعسكري الذي تقدمه الدول الأوروبية لكييف، فإنها موجودة وتؤثر على السلم الاجتماعي داخل الاتحاد الأوروبي.

ويتحدث خبير الشؤون الأوروبية هنا حول خلافات محتملة داخل البيت الأوروبي، ربما توجد مؤشرات وبوادر تؤكد أنها موجودة بالفعل، وتُجرى محاولات التستر عليها من قبل المسؤولين، سواء في حلف الناتو، أو الاتحاد الأوروبي، مستشهداً بموقف رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، الذي يخالف الرأي الساري المعمول به ضمن حلف شمال الأطلسي والمرتبط بالدعم المستمر لأوكرانيا وفرض عقوبات على روسيا، «بالتالي أعتقد أنه ستكون هناك انقسامات واضحة، وأن يفضي ذلك إلى تخفيف الدعم المقدم لكييف من جانب أوروبا».

كما يستشهد بركات كذلك بالوعود التي تقدمها دول أوروبية لأوكرانيا بمدها بدبابات ومقاتلات حديثة، ثم يتم التلكؤ والتأجيل لأسباب مختلفة، وبما يشير إلى المؤشرات المرتبطة باحتمالية تراجع دول الاتحاد الأوروبي نسبياً عن دعم كييف.

Email