متغيرات تضع قواعد النظام الدولي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على المحك

روسيا وأوكرانيا سيناريوهات الحرب في 2023

ت + ت - الحجم الطبيعي

شكّل الرابع والعشرون من فبراير 2022 لحظة تاريخية فاصلة، يختلف ما قبلها تماماً عما بعدها على كثير من الصُعد، بما لها من تداعيات شديدة الخطورة، كما أوجد سيناريوهات مختلفة؛ أكثرها تشاؤماً يضع العالم على مقربة من حرب واسعة النطاق بين القوى الرئيسة الكبرى.

العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا التي انطلقت في هذا التاريخ، وما تلاها من تطورات متسارعة حتى اللحظة، كشفت بوضوح عن حجم المتغيرات المتواترة التي تعتمل بالنظام الدولي، ومهدت لحالة من السيولة السياسية نحو عالم متعدد الأقطاب. متغيرات عديدة كانت وليدة تلك اللحظة التاريخية التي سجّلها العام 2022، تضع القواعد الراسخة للنظام الدولي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على المحك.

بينما يرى مراقبون أن مآلات هذه الحرب الراهنة بين روسيا وأوكرانيا ونتائجها سوف يتحدد معها جانب من شكل «العالم الجديد» وتركيبة التفاعلات الدولية. مرّت الحرب بجملة من التطورات على مدار العام (ميدانياً وعسكرياً وسياسياً وحتى اقتصادياً) بين روسيا المُمسكة بأهدافها من «العملية العسكرية»، وأوكرانيا المدعومة من حلفائها الأوروبيين والولايات المتحدة.

حملت تلك التطورات في دلالاتها الأساسية تأكيداً على انغلاق الأفق مرحلياً على الأقل أمام طاولة المفاوضات، مع سقف مطالب مرتفع لكل من الطرفين، بينما لم تغب التكتلات الداعية للسلام على الهامش. فأي مصير ينتظر الحرب في أوكرانيا؟ وأي السيناريوهات أقرب للتحقق؟ وكيف ينعكس ذلك على الأطراف ذات الصلة بتلك الحرب؟

الكرة في ملعب أوكرانيا!

أمام المعطيات الحالية فعلى ما يبدو أن جميع الأطراف باتوا يدركون تماماً أن «القتال سوف يستمر حتى في فترة الشتاء، وتتواصل العمليات القتالية بين الجيشين الروسي والأوكراني»، طبقاً للمحلل السياسي الروسي أندريه أنتيكوف.

والذي يشير في حديثه مع «البيان» إلى أن «الجانب الأوكراني لا يستطيع الذهاب إلى طاولة الحوار؛ لأن تلك الخطوة قد تشكل تهديداً سياسياً للرئيس فلودومير زيلينسكي، والذي قد يتعرض فوراً لضغوطات وانتقادات من داخل أوكرانيا».

ويبرر ذلك بقوله إن «الرئيس الأوكراني وضع اشتراطات غير مقبولة وغير واقعية، من بينها انسحاب القوات الروسية من كل الأراضي التي تسيطر عليها بما في ذلك الأراضي التي تعتبرها روسيا أراضي روسية والمناطق الأربع التي تم ضمها وأيضاً القرم..

هذا التصور غير مقبول بالنسبة لروسيا». وطبقاً للمحلل السياسي الروسي، فإن «موسكو من جانبها مستعدة للجلوس إلى طاولة الحوار ليس فقط من أجل إيقاف العملية القتالية، بل إن ثمة مسائل عالقة أخرى يتعين حسمها، من بينها الضمانات الأمنية وعدم عضوية أوكرانيا في الناتو والاتحاد الأوروبي».

وفي ضوء ذلك يعتقد أنتيكوف بأن «الكرة حالياً في الملعب الأوكراني، وعلى كييف أن تتخذ قراراً بموعد استئناف الحوار.. قبل ذلك سوف نشاهد استمرار العمليات القتالية في أوكرانيا، وروسيا جاهزة لهذا السيناريو وجاهزة أيضاً لسيناريو الحوار».

سيناريوهان رئيسيان

وتعتمد سيناريوهات الحرب أو التسوية في أوكرانيا على سيناريوهين رئيسيين، إما انتصار جناح الحرب أو جناح السلام، بما لكل من سيناريو من تداعيات، فيما لا تزال المؤشرات الحالية تعكس تفوقاً للتكتلات أو الأجنحة الداعية لاستمرار الحرب داخل كل طرف من الأطراف المباشرة وغير المباشرة.

هذا ما يؤكده الأستاذ في معهد الاستشراق بمدرسة الاقتصاد العليا في روسيا، رامي القليوبي، في تصريحات لـ «البيان»، والذي يشير إلى أن هناك طرفين مباشرين في النزاع هما روسيا وأوكرانيا، وأطرافاً غير مباشرة ممثلة في الغرب. كل طرف من تلك الأطراف بداخله جناحا (الحرب والسلام).

في روسيا على سبيل المثال، هناك قوى وأطراف -بصفة خاصة رجال الأعمال وبعض السياسيين- تدعو لنوعٍ من التسوية والتفاوض حتى لو حدث تراجع عن بعض الأراضي، لكن على الجانب الآخر هناك طرف (حزب الحرب) الذي يطالب بمواصلة العملية العسكرية حتى تحقيق جميع أهدافها التي أعلن عنها الروس منذ البداية.

وأمام ذلك المشهد، فإن «الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الآن في وضع صعب، لأنه غالباً في جميع دول العالم تتعرض السلطة لضغوطات من المعارضة، لكن في موسكو يتعرض الكرملين لضغوطات من مؤيديه قبل معارضيه حتى يحقق أهداف الحرب»، طبقاً للقليوبي.

ويتابع: «على الجهة الأخرى، في أوكرانيا دائماً ما يتفوق صوت الحرب على صوت السلام، حتى إن الرئيس زيلينسكي يضع شروطاً تعجيزية، فتارة يقول إنه لا تفاوض مع روسيا طالما بقي بوتين في السلطة، وتارة أخرى يقول إنه على روسيا الانسحاب من الأراضي كافة التي تسيطر عليها.

وهذا أمر مستحيل على اعتبار أن روسيا قامت بتسجيل هذه الأراضي على مستوى الدستور، ولا يمكن في الوقت الراهن أو بالمستقبل التراجع، حتى إن أي رئيس يأتي بعد بوتين إذا فرط في هذه الأراضي فسينظر إليه الروس بأنه خالف مصالح الشعب وخالف الدستور».

جناحا السلام والحرب

كذلك في الغرب تبزغ أجنحة الحرب والسلام، فالثلاثي الممثل في كل من (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا) يدعو إلى نوع من الحوار مع روسيا، وذلك في مقابل كتلة تتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية رفقة بريطانيا وبولندا ودول البلطيق، تدعو تلك الكتلة إلى خنق روسيا اقتصادياً وتزويد أوكرانيا بمزيدٍ من الأسلحة الحديثة، وللأسف هذه الكتلة (كتلة الحرب) هي المنتصرة.

وبالتالي فإنه «إذا كان كل جناح قد انتصرت به كتلة الحرب، فهذا يعني أن الحرب في أوكرانيا ستسمر طيلة العام 2023 وقد تمتد أيضاً إلى ما بعد ذلك» في أسوأ السيناريوهات المطروحة في ضوء المعطيات الراهنة، بحسب الأستاذ في معهد الاستشراق بمدرسة الاقتصاد العليا في روسيا.

بينما هناك سيناريو ثانٍ متفائل، يتمثل في وصول روسيا وأوكرانيا إلى حالة الإنهاك من هذه الحرب وفي ضوء الخسائر الفادحة في الأرواح.

وبالتالي ينتصر صوت السلام ويتم التوصل إلى نوع من التسوية، أو بمعنى أصح «تجميد النزاع» طبقاً للقليوبي، الذي يلفت إلى أن هذا السيناريو قد يفضي إلى انسحاب روسيا من بعض الأراضي مقابل احتفاظها بالسيطرة على أراضٍ أخرى حتى لو من دون اعتراف دولي، ولتكون هذه الأراضي ضمن المنطقة الرمادية في القانون الدولي.

إطالة أمد الحرب

بينما يميل الكثير من المراقبين إلى الاعتقاد بأن سيناريو امتداد الحرب وإطالة أمدها ربما يتماشى مع رغبة بعض الدول المستفيدة من اندلاع الأزمة، ومن بينها دول أوروبية ترى في «توريط روسيا» هدفاً أساسياً لها.

يتبنى هذا الرأي من سان بطرسبورغ رئيس المركز الثقافي الروسي العربي الدكتور مسلم شعيتو، والذي يرى بأن الحديث عن إفساح المجال أمام المفاوضات للوصول إلى حل يحسم الأزمة إنما «هو مجرد تصريحات لذر الرماد في العيون».

ويشدد المحلل السياسي المقيم في روسيا، لدى حديثه مع «البيان» حول سيناريوهات الحرب في أوكرانيا، على أن ثمة تطورات عسكرية وسياسية تكشف عن مآلات الوضع بالنسبة للحرب في أوكرانيا.

فعلى الصعيد العسكري (الميداني) على سبيل المثال لوحظ أنه في الأسابيع الأخيرة لم تستطع القوات الأوكرانية التقدم على المحاور التي كانت تتقدم عليها سابقاً، بينما على العكس تماماً تتقدم القوات الروسية وإن كان ذلك بشكل بطيء -سواء كان متعمداً أو بسبب وقائع الميدان- علاوة على محاولات للالتفاف على كثير من المواقع المحصنة جيداً من القوات الأوكرانية.

رسائل الغرب

سياسياً، لا يزال الغرب يرسل عديداً من الإشارات المرتبطة بالرغبة في الجلوس إلى طاولة المفاوضات، بينما ذلك لا يعدو سوى محاولات من أجل ذر الرماد في العيون، وفق تعبير شعيتو، الذي يرى أن «الغرب حقق مكاسب استراتيجية محددة من الحرب في أوكرانيا، لجهة دفع الروس والأوكرانيين للتورط أكثر، وبالتالي إضعافهما معاً».

ويتابع شعيتو: «الأمر نفسه ينطبق على الولايات المتحدة التي تعتقد بأن الحرب لم تطل أراضيها.

وبالتالي ليس خطيراً إطالة أمد تلك الحرب حتى وإن انعكست تداعياتها (الاقتصادية) على أوروبا، لا سيما أن ذلك يعني مزيداً من المكاسب لواشنطن للحفاظ على الهيمنة». وبحسب هذا التصور، فإن سيناريو إطالة أمد الحرب يتماهى ومصالح بعض الدول المستفيدة والتي تعمل على «تسعير الأزمة».

ومنذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بلغ إجمالي المساعدات «العسكرية» الأمريكية لأوكرانيا نحو 19.3 مليار دولار حتى منتصف نوفمبر تقريباً، فيما بلغت مساعدات الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا 22 مليار يورو (3 مليارات يورو مساعدات عسكرية، و19 ملياراً دعماً إنسانياً واقتصادياً) دون احتساب المساعدات التي قدمتها الدول الأوروبية منفردة.

مشهد معقد

ويقول الخبير في الشأن الروسي: «نحن أمام مشهد سياسي معقد متداخل مع العملية العسكرية.. هم (الغرب والولايات المتحدة) يحاولون في بعض الأحيان إرسال إشارات متعلقة بالمفاوضات والوصول لحل نهائي بما يضمن الأخذ في الاعتبار بالمصالح الروسية، لكن كل هذا من باب كسب الوقت..

حتى ما يقومون به من عقوبات اقتصادية (من بينها 8 حزم من العقوبات الأوروبية حتى 6 أكتوبر الماضي) وقرارات مثل تحديد سقف لسعر النفط الروسي، إنما يعبر ذلك عن الصراع الداخلي بين تيارات داخل أوروبا نفسها (..) هذه الإجراءات لم تنعكس سلباً على الاقتصاد الروسي رغم كل ما قاموا به».

ويعد سيناريو إطالة أمد الحرب وامتدادها، هو أحد أخطر السيناريوهات التي تلف مصير الصراع الحالي، حتى إن رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان، كان قد توقع إمكانية أن تمتد الحرب حتى العام 2030، بما يُفقد كييف نصف مساحتها، ضمن سيناريو قاتم رسمه لمستقبل الأزمة خلال كلمة له بإحدى اجتماعات حزبه الحاكم في سبتمبر الماضي.

Email