الملف

أمريكا والصين حرب باردة بذخيرة اقتصادية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يشهد النظام الدولي، لا سيما في شقه الاقتصادي، تحولات هيكلية متصاعدة، في خطٍ متوازٍ مع صراع الهيمنة والتنافس الجيوسياسي بميادين مختلفة، بين عدد من القوى الكبرى، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية والصين، اللتان تقفان على شفير مواجهات أعمق، وسياسات أكثر تشدداً من الجانبين، في إطار التصعيد المتبادل.

وفي ضوء الخلافات التجارية الحادة، ومساعي واشنطن للحد من صعود بكين الاقتصادي.خلال السنوات الماضية، وبشكل خاص منذ عام 2018، اتخذت «الحرب التجارية» بين الولايات المتحدة والصين مساراً تصاعدياً متسارعاً، بعدما فرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، قيوداً على الواردات الصينية، عبر فرض رسوم جمركية على السلع، وقرارات في مجملها هادفة إلى تقويض بكين اقتصادياً.

ولم تذهب إدارة الرئيس الحالي جو بايدن بعيداً في سياق الحرب التجارية، وذلك عبر فرض حظر وعقوبات على شركات صينية، تضمنت بشكل خاص قطاع التكنولوجيا، لا سيما أشباه الموصلات.

ومع تصاعد الخلاف التجاري الحاد بين البلدين، وفي خطٍ متوازٍ مع حرص بكين على الرد المباشر على أي عقوبات أمريكية، وتأكيداتها على أنها تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية المصالح المشروعة للشركات الصينية، ما التداعيات المحتملة لتبادل الحظر الاقتصادي والتكنولوجي بين الطرفين، سواء على الصين أو على الاقتصاد الأمريكي؟

وكيف يُمكن فهم انعكاسات ذلك على توتر العلاقات بينهما دبلوماسياً وسياسياً واقتصادياً؟ وما حدود تأثر الاقتصاد العالمي بحرب أكبر قوتين اقتصاديتين؟.

يميل كثير من المراقبين إلى تبني التأكيد على كون الحرب التجارية الراهنة بين أكبر اقتصادين على مستوى العالم، تُهدد بتقويض النظام القائم في التجارة الدولية، مع انعكاساتها المحتملة واسعة المدى على الاقتصاد العالمي حال توسعها. ويعتقدون بأن الخسائر «ستطال الجميع»، بالنظر إلى ما يمثله كل طرف من ثقل اقتصادي في قطاعات مختلفة، ونفوذ متشعب في عدد من الاقتصادات حول العالم.

خلال السنوات الأربع الماضية بشكل خاص، وسّعت الولايات المتحدة حربها الاقتصادية المحدودة على الصين، من خلال التعريفات الجمركية، وضوابط التصدير، والقيود المفروضة على الاستثمار الأجنبي. وفي شهر أكتوبر الماضي، صعّدت إدارة الرئيس بايدن حربها الاقتصادية بشكل كبير، من خلال سن عقوبات على أشباه الموصلات المتقدمة، ومعدات صناعة الرقائق، ومكونات الحواسيب العملاقة ذات الصلة.

يعلق الأكاديمي الأمريكي أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هاملتون في نيويورك، آلان كفروني، في حديث مع «البيان»، قائلاً: «تضرب العقوبات قلب الاقتصاد الصيني، واستراتيجية بكين الصناعية الوطنية (صنع في عام 2025)»، مشدداً على أن بكين تتخلف عن الولايات المتحدة ووكلائها في تكنولوجيا أشباه الموصلات بشكل خاص.

عرقلة الصين

لكن كفروني يرى أن العقوبات تتجاوز الحدود الإقليمية، ما يعني أنها تمنع جميع الشركات - وليس الأمريكية فقط - من التعامل مع الشركات الصينية. وعلى الرغم من أن القصد من وراء ذلك له ما يبرره، من حيث الأمن القومي، فمن الواضح أن «الهدف العام، هو عرقلة المزيد من الصعود الاقتصادي للصين، ومن المرجح أن تتكشف سياسات أكثر قسوة في المستقبل القريب».

وفي قراءته للمشهد، يعتقد الأكاديمي الأمريكي، بأنه «ليس من الواضح بأي حال من الأحوال، أن إدارة بايدن ستنجح في تحقيق هذا الهدف (عرقلة صعود الصين الاقتصادي)، ذلك أن بكين تستثمر بكثافة في تكنولوجيا أشباه الموصلات (..)»، معتبراً أنه «حتى لو نجحت استراتيجية الإنكار على المدى القصير، فمن غير المرجح أن تنجح على المدى الطويل».

وتعتبر الرقائق جانباً من أبرز مواطن التوتر المتزايد بين البلدين، في وقت تنظر فيه واشنطن إلى تلك القضية، باعتبارها «قضية أمن قومي»، ساعية للحفاظ على قدراتها التنافسية بهذا القطاع. بينما بكين -التي أنفقت في عام 2020 وحده قرابة الـ 350 مليار دولار لشراء الرقائق- تتبنى خطة للاكتفاء الذاتي من الدوائر الإلكترونية المتكاملة، التي تدخل في مختلف الصناعات التكنولوجية.

وبالعودة لحديث كفروني مع «البيان»، فإنه ينبه إلى أن الشركات الأمريكية تعتمد اعتماداً كبيراً على السوق الصينية، وأن «الخسارة الجزئية لهذه السوق، ستقلل بشكل كبير من الأرباح، وتقلل من المزيد من الاستثمارات في البحث والتطوير».

وكانت إدارة بايدن أقرت قانوناً يمرر مساعدات بقيمة 52 مليار دولار، لإعادة تحريك إنتاج أشباه الموصلات في الولايات المتحدة. إلا أنه، وعلى الرغم من ذلك، يعتقد أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هاملتون في نيويورك، بأن «هذه الإعانات لن تعوض عن فقدان الأسواق في الصين».

مشيراً في الوقت نفسه، إلى أنه حتى بالنسبة لحلفاء واشنطن، فإنهم «سيترددون في قبول المزيد من الفصل في صناعة من المتوقع أن تصل إلى تريليون دولار بحلول العام 2030، ستمثل الصين 40 % منها تقريباً».

ويتطرق في السياق نفسه إلى تبعات «حرب التجارة والتكنولوجيا المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين»، مشدداً على أن تلك الحرب، تهدد بتباطؤ النمو في الاقتصاد العالمي، الذي يعاني من ارتفاع أسعار الطاقة، وتزايد الدين، وارتفاع أسعار الفائدة. كما تؤدي مركزية تايوان، التي تمثل 80 % من صناعة الرقائق المتقدمة، إلى تفاقم التوترات الجيوسياسية.

وإلى جانب الانقسام الاقتصادي، تقوم الولايات المتحدة بتعميق تحالفاتها الأمنية المناهضة للصين في شرق آسيا، وتوسيع العلاقات العسكرية مع تايوان.

تبادل تجاري

ورغم التوترات السياسية والحظر التجاري والتكنولوجي، فإن البلدين يعتبران من أكبر الشركاء التجاريين. وتشير بيانات مصلحة الجمارك الصينية، إلى ارتفاع حجم التبادل التجاري بين البلدين في عام 2021 بنسبة 28.7 %، ليصل إلى 755.64 مليار دولار. وقد حافظت الولايات المتحدة على مكانتها كثالث أكبر شريك تجاري للصين، بعد الآسيان والاتحاد الأوروبي.

وفي عام 2020، بلغ إجمالي تجارة السلع والخدمات الأمريكية مع الصين، ما يقدر بـ 615.2 مليار دولار، وبلغت الصادرات 164.9 مليار دولار، بينما بلغت الواردات 450.4 مليار دولار، وفق بيانات التجارة الأمريكية.

مشاكل اقتصادية

وعلى النقيض من قراءة كفروني، يعتقد الباحث في مؤسسة أمريكا الجديدة، باراك بارفي، بأن الولايات المتحدة «لن تعاني بنفس القدر الذي تعاني منه الصين، جراء تصاعد الحظر المتبادل»، مبرراً ذلك بقوله: «إن بكين لا تتمتع بالاكتفاء الذاتي في التكنولوجيا المتقدمة، مثل الرقائق الدقيقة، وبالتالي، سيؤدي حظر هذه المنتجات عن الصينيين، إلى خلق مشاكل خطيرة بالنسبة لهم».

وفي المقابل، فإنه يشير إلى أن الحظر الأخير الذي فرضته الولايات المتحدة على بيع واستيراد معدات هواوي و«زد تى إي»، وشركات صينية أخرى «لن تكون لها آثار كبيرة، في وقت لا تسمح واشنطن لعديد من المنتجات بدخول السوق الأمريكية بالفعل من قبل..

بينما على الجانب الآخر، ستتأثر شركة مثل شركة الاتصالات الصينية العملاقة هواوي في أوروبا، حيث كانت نشطة للغاية هناك، بينما مارست الولايات المتحدة ضغوطاً (بوصف شركات التكنولوجيا الصينية، على اعتبارها خطر أمني)، لتقليص ذلك النشاط».

حرب باردة

وبالعودة لحديث بارفي، فإنه يلفت في الوقت نفسه، من منطلق وجهة النظر الأمريكية، إلى أن «قرار بكين بتحدي قواعد النظام الدولي، واستعراض عضلاتها في جنوب المحيط الهادئ، علاوة على استفزاز واشنطن، يعني أننا نواجه نوعاً مختلفاً من الصراع عن الحرب الباردة»، طبقاً لتعبيره، موضحاً أن آفاق المواجهة قد تمتد إلى صراع يتعين معه الاستثمار في القدرات البحرية، حيث قد تندلع حرب محتملة أو مناوشات طفيفة.

وفي تقدير الباحث في مؤسسة أمريكا الجديدة، فإن واشنطن يتعين عليها، بموازاة ذلك، أن تولي اهتماماً أكبر بأفريقيا (لجهة احتواء النفوذ الصيني)، وبشكل خاص في البلدان الغنية بأنواع المعادن اللازمة لإنتاج التقنيات الخضراء المستقبلية.

وعبّر صندوق النقد الدولي، عن التحديات التي تلف الاقتصاد العالمي، جراء المواجهة بين الولايات المتحدة والصين.

وطبقاً لجورجيفا، فإنه حال تصاعد المواجهة، سوف ينكمش الاقتصاد العالمي بنسبة 1.5 %، أو أكثر من 1.4 تريليون دولار على أساس سنوي.

قطاع تكنولوجي

من جانبه، يرى الرئيس التنفيذي بمركز كوروم للدراسات الاستراتيجية في لندن، طارق الرفاعي، أن «أي شكل من الحظر الاقتصادي عموماً، لا سيما في القطاع التكنولوجي، بين الولايات المتحدة والصين، من شأنه أن تكون له تداعيات شديدة الصعوبة على الجانبين، باعتبارهما أكبر اقتصادين في العالم، ويعتمدان على بعضهما البعض في سياقات مختلفة اقتصادياً».

ويشير إلى أن الحظر أو العقوبات المفروضة في فترة ترامب، مع تصاعد التوترات التجارية بين البلدين (لا سيما منذ قرارات عام 2018)، تضمن قطاعات مختلفة، لكن الأمر بلغ ذروته بعد ذلك، مع استهداف شركات التكنولوجيا الصينية، وبما قد يؤثر في الاقتصاد الأمريكي نفسه.

ويشير لدى حديثه مع «البيان»، إلى أن هذه السياسات الأمريكية، قد تنجح على المدى القصير، لكنّ الأمر يختلف على المدى الأبعد، ويمكن أن يقود ذلك إلى مفاوضات عميقة بينهما، من أجل إيجاد حلول جادة للمشاكل البينية، في ضوء ما يمثله تبادل الحظر الاقتصادي والتكنولوجي من تداعيات سلبية واسعة.

ولا يعتقد الرفاعي بأن أياً من الطرفين يمكنهما فك الارتباط الاقتصادي، على اعتبار أن البلدين يعتمدان على بعضهما البعض بشكل مباشر في مجال التجارة والاستثمار بشكل خاص. ويوضح أن الولايات المتحدة تعتمد على الصين بشكل كبير في القطاع التكنولوجي (تشمل واردات واشنطن من بكين، هواتف ذكية ومعدات خاصة وأجهزة الكمبيوتر وبطاريات الليثيوم أيون، على سبيل المثال).

عالم يتغير .. صراع التكنولوجيا سيدور على مدى عقود

في صيف عام 2020 لاحظ الآلاف من رجال الإطفاء، الذين يكافحون النيران، التي اندلعت في ولايتي كاليفورنيا وأوريغون عدم وجود طائرات موجهة عن بعد، لمراقبة مدى سرعة انتشار النيران.

كانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أمرت الوكالات الحكومية، خلال العام السابق بوقف استخدام أكثر من 800 طائرة موجهة عن بعد من تصنيع الشركة الصينية «دي جي أي».

حيث كانت الإدارة قلقة من أن تلك الطائرات قد ترسل سراً معلومات حساسة إلى الصين.

كان الافتقار إلى الطائرات الموجهة عن بعد دليلاً ملموساً على التأثيرات المضاعفة للصراع الأمريكي- الصيني، وقد جاء بعواقب وخيمة، فهل كان التخفيف من تلك المخاطر، التي لا أساس لها ما يستحق هذا الثمن المرتفع؟

بالنسبة لواشنطن كانت الإجابة على ما يبدو بـ«نعم»، ففي السنوات الأخيرة أصبحت الولايات المتحدة قلقة بشكل متزايد من السماح لشركات التكنولوجيا الصينية بالعمل على التراب الأمريكي، أو استخدام الوكالات الحكومية الأمريكية للتكنولوجيا الصينية، نظراً لأن ذلك يعرض الأمن القومي للخطر، والقضية ليست مقصورة على الطائرات الموجهة عن بعد.

بل تمضي الحجة لتفيد بأن جميع شركات التكنولوجيا الفائقة في الصين لها علاقات مع الدولة، ومن هذا المنظور تشكل أبراج الهواتف المحمولة الصينية الصنع المثبتة بالقرب من المباني الحكومية تهديداً جسيماً بشكل خاص، وهذا هو لب الجدل حول مشاركة بكين في نشر شبكات اتصالات «جي».

ما بين الولايات المتحدة والصين صراع على الهيمنة الاقتصادية، وفي هذه الحرب الاقتصادية لا غرابة في أن الولايات المتحدة حريصة على الاستفادة من جميع أشكال الإكراه الاقتصادي، وقد فرضت إدارة ترامب تعريفات أمريكية على 360 مليار دولار من واردات أمريكا من الصين، وأوضح الرئيس الأمريكي، جو بايدن، أنه لن يرفعها.

كما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على أفراد صينيين. وفي المجال المالي يفكر المشرعون الأمريكيون الآن فيما إذا كانوا سيشطبون أكثر من تريليون دولار من أسهم الشركات الصينية في البورصات الأمريكية،

لكن الاقتصاد الصيني نما بشكل كبير للغاية، بحيث لا تستطيع واشنطن معاقبة بكين بمجموعة أدواتها المعتادة، وقد تكون الولايات المتحدة استكشفت جميع أدوات التجارة المحتملة، الرسوم الجمركية بشكل أساسي، فيما العقوبات المالية تبدو أمراً مستبعداً للغاية، إذ من شبه المؤكد أن يؤدي استهداف ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعقوبات مالية إلى نتائج عكسية.

وقد احتاجت الولايات المتحدة إلى شيء آخر، لتعزيز مصالحها ضد الصين، لذلك ركزت جهودها على قطاع التكنولوجيا.

في عام 2016 أعلنت القيادة الصينية أنها تخطط لإنفاق 150 مليار دولار على مدى 10 سنوات، لتطوير صناعة أشباه موصلات.

فانطلقت أجراس الإنذار في جميع أنحاء مؤسسة الدفاع الأمريكية، ذلك أنه من الممكن أن تصبح الشركات الصينية في غضون عقود قليلة قادرة على تصنيع رقائق دقيقة أكثر تطوراً من الولايات المتحدة، ونتيجة لذلك، قد تصبح الصواريخ أو أنظمة الدفاع الحيوي الصينية الأكثر تطوراً في العالم.

كعب أخيل

وتشكل أشباه الموصلات كعب أخيل للاقتصاد الصيني، إذا تشتري بكين أكثر من 300 مليار دولار من أشباه الموصلات الأجنبية الصنع كل عام، ما يجعل رقائق الكمبيوتر أكبر واردات الصين، وفيما تستورد المصانع الصينية 85% من الرقائق الدقيقة التي تحتاجها لبناء سلع إلكترونية، يتم تصنيع معظم أشباه الموصلات باستخدام التكنولوجيا الأمريكية.

بالنسبة لواشنطن، يجعل هذا الأمر من ضوابط التصدير أداة مثالية على ما يبدو لحرمان بكين من الابتكارات الأمريكية ومعارفها، وتعمل مثل هذه القيود بطريقة مماثلة للعقوبات المالية: فهي تسعى إلى الحد من وصول الخصم إلى السلع الأساسية الأمريكية الصنع، والعملة الخضراء أو تكنولوجيا رقائق الكمبيوتر، التي أصبحت حاسمة للغاية.

وتنتج الشركات الأمريكية نحو 10 % فقط من رقائق الكمبيوتر المباعة في جميع أنحاء العالم، فيما توجد مسابك الرقائق الدقيقة الرائدة (خطوط تجميع أشباه الموصلات) في آسيا، وبخاصة في تايوان وكوريا الجنوبية، ومع ذلك فإن حفنة من الشركات الأمريكية تتحكم في جميع المستويات العليا من سلسلة التوريد.

وبالنظر إلى هيمنة الولايات المتحدة على قطاع الرقائق الدقيقة تدرك واشنطن أن لديها كل الفرص لتوجيه ضربة لطموحات بكين التكنولوجية.

في عام 2018 بدأ الكونغرس في وضع هذه الاستراتيجية موضع التنفيذ، حيث تبنى بهدوء سلسلة من اللوائح، التي تهدف إلى منع وصول الصين إلى المعارف الأمريكية. في مايو 2019 بدأت إدارة ترامب بفرض ضوابط تصدير على «هواوي».

وفي مايو 2020 أعلنت الإدارة منع جميع مصنعي الرقائق الدقيقة من توفير رقائق لـ«هواوي» إذا استخدموا التكنولوجيا الأمريكية، وبعد ذلك بثلاثة أشهر شددت وزارة التجارة القواعد لحظر بيع الرقائق الدقيقة لشركة «هواوي»، وفي الفترة المتبقية من العام، وسعت الإدارة القيود لاستهداف العشرات من الشركات الصينية الأخرى، ومن بينها «إس ام أي سي» أكبر شركة لتصنيع الرقائق الدقيقة.

بدت تلك التدابير قاسية في وقتها، لكنها كانت مجرد خطوات أولى، إذ فرضت إدارة بايدن في أكتوبر قيوداً على جميع صادرات الرقائق الدقيقة وأدوات صنع أشباه الموصلات إلى الصين، وتم تحذير المواطنين الأمريكيين من أنهم يخالفون القانون إذا اختاروا العمل لشركات تكنولوجيا صينية من دون موافقة واضحة من الحكومة الأمريكية.

وعلى غرار العقوبات المالية تسعى تلك اللوائح التصديرية إلى إجبار الدول والشركات على اختيار أحد الجانبين، بين الولايات المتحدة والدولة الخاضعة للعقوبات، أي الصين، وتراهن الولايات المتحدة بأن أكبر منتجي الرقائق الدقيقة في العالم مثل «سامسونغ» في كوريا الجنوبية و«ميديا تيك» و«تي اس ام سي» في تايوان سوف تقف إلى جانبها وتوقف العمل مع الشركات الصينية.

وفي المقابل، قد تحافظ على روابط مع الصين، لكن هذا قد يأتي بثمن باهظ: فاستخدام التكنولوجيا الأمريكية لتصميم أو صناعة رقائق دقيقة لشركات صينية أصبح مستحيلاً، والاستمرار في خدمة السوق الصيني الآن يستلزم إعادة بناء خطوط تصنيع كاملة موافق عليها أمريكياً للزبائن الصينيين، تصل كلفتها إلى مليارات عدة من الدولارات.

وكان التأثير العالمي المضاعف لضوابط التصدير ضد شركات التكنولوجيا الصينية هائلاً، وربما أكثر مما توقعته وزارة التجارة، فقد اضطرت «هواوي» إلى إيقاف الإنتاج في عدد من منشآتها، وفي مواجهة مستويات عالية من عدم اليقين، خفضت «اس ام أي سي» الإنفاق وخطط الاستثمار. وخارج الصين، باشر مديرو مسابك الرقائق بشكل محموم في التحقق مما إذا كانت معداتهم تستخدم تكنولوجيا أمريكية. وفي بعض الحالات النادرة، حيث لا تعتمد خطوط إنتاج الشركات العالمية على التكنولوجيا الأمريكية كانت واشنطن عازمة على التأكد من أن جميع الشركات الغربية تخلت عن عقودها مع بكين، فضغطت على الحكومة الهولندية بشدة، للتأكد من أنها ستمنع شركة «ايه اس ام ال» من العمل مع الشركات الصينية.

بالنسبة إلى بكين كانت هذه علامة مؤكدة على وجود مشاكل مقبلة: فالشركة الهولندية هي الشركة الوحيدة في العالم التي تتقن تكنولوجيا الأشعة فوق البنفسجية الشديدة، التي تحتاجها «اس ام أي سي» لتصنيع رقائق متقدمة للغاية.

وتعتبر أشباه الموصلات ذات أهمية خاصة بالنسبة للقادة في الصين: في تصنيع الهواتف المحمولة ونشر شبكات 5 «جي» على الأراضي الصينية. ولا يبدو أن الولايات المتحدة عازمة على كبح قدرة الصين على تصنيع هواتف خليوية أساسية رخيصة الثمن، لأنها لا تشكل تهديداً أمنياً للولايات المتحدة، لكنها، تبدو حريصة على تطبيق ضوابط التصدير إلى أقصى حد عندما يتعلق الأمر بالرقائق فائقة الدقة والمتقدمة للغاية.

بالنسبة للصين هذه مشكلة كبيرة في السنوات المقبلة، حيث قد يكون على الابتكارات التي تتيحها شبكة الجيل الخامس الانتظار فترة أطول كالمركبات ذاتية القيادة أو الشبكات الكهربائية الذكية.

ومن المرجح أيضاً أن تكون التأثيرات المضاعفة في الصين والولايات المتحدة مجرد قمة جبل الجليد، وأن نشهد نتائج ضوابط التصدير للتكنولوجيا الأمريكية على مدى عقود عدة.

فالابتكار يأتي مع استثمارات صناعية طويلة الأجل تنطوي على سلاسل توريد وعمليات تصنيع منظمة، وسوف يجري تعديل هذه الخطط، فحالياً، تعمل الشركات المصنعة الرائدة في العالم للرقائق الدقيقة التايوانية والكورية الجنوبية على إعادة تصميم سلاسل التوريد العالمية الخاصة بها، مع وضع ضوابط التصدير الأمريكية في الاعتبار.

وتلك الطبيعة طويلة الأجل لبرامج الاستثمار الضخمة تعني أن تأثيرات ضوابط التصدير ستثبت أنها طويلة الأمد، ويصعب التخلص منها.

وسيدور الصراع الصيني- الأمريكي حول التكنولوجيا على مدى عقود عدة، وربما ما بعد عام 2050، وعلى ما يبدو، ستشكل ضوابط التصدير الجزء الأكبر من ترسانة واشنطن للدفاع عن المصالح الأمريكية وخاصة في قطاع التكنولوجيا، وتظهر التحول المتزايد نحو بيئة تكون فيها القيادة التكنولوجية هي المحرك الرئيس للنفوذ السياسي والقوة الاقتصادية، فضلاً عن كونها أحد المحددات الحاسمة للقوة العسكرية.

* مديرة التوقعات العالمية في «وحدة المعلومات الاقتصادية»- مجلة «فورين بوليسي»

لا مؤشرات على خفض التصعيد

يستبعد خبراء أن تخف حدة التوتر في العلاقات الصينية الأمريكية، وبخاصة بعد مخرجات المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الحاكم. بل يرجح بعضهم أن تتجه العلاقات بين البلدين صوب مزيد من التصعيد، رغم صدور تصريحات من الجانبين تشير إلى ضرورة خفض التوتر.

وينقل موقع «دي دبليو» الألماني عن آيفي كويك، الباحثة في الشأن الصيني في مجموعة الأزمات الدولية، قولها إن هذه التحديات «مرجعها تنافس الصين الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي تعتبره بكين فرصة في ضوء تحول ميزان القوى وتراجع القوة الأمريكية نسبياً. وأضافت في مقابلة أن هناك شعوراً متزايداً بالتهديد لدى الجانب الصيني مع التطرق إلى التدخل الأجنبي.

ويتوقع خبراء اشتداد التنافس بين أمريكا والصين في مجال التكنولوجيا، خاصة بعد قيام واشنطن بفرض سلسلة قيود على صادرات أشباه الموصلات إلى الصين في محاولة لمنع حصول الشركات الصينية على هذه التقنية.

أما ديكستر روبرتس، الباحث في «المجلس الأطلسي»، فيرى أن الرئيس الصيني شي جين بينغ على اقتناع بشكل تام بأنه «سيتعين على الصين شق الطريق بمفردها»، وبخاصة في مجال الصناعات المعتمدة على أشباه الموصلات.

وهو يرى أن بينغ على اقتناع بأنه «يجب أن تصبح الصين أكثر اعتماداً على ذاتها في مجال التكنولوجيا.. لذا نرى بالفعل شركات كبيرة ومتعددة الجنسيات تبلغ مورديها أنهم بحاجة إلى التنويع خارج الصين».

منحى دبلوماسي

وبالتوازي مع التنافس الدولي خاصة مع الولايات المتحدة في قطاع التكنولوجيا، فإن الصين تعمد إلى تعزيز مكانتها على الساحة الدولية والترويج لـ«دبلوماسية الدول الكبرى ذات الخصائص الصينية،» حسبما ترى الباحثة في الشأن الصيني كويك.

وتقول إن الصين تسعى إلى «تمييز نفسها على الساحة الدولية ونزع الشرعية عما تعتبره سلوكاً أمريكياً في إدارة الشؤون الدولية. إذ إن بكين تصر على ممارسة التعددية بشكل حقيقي بمعنى عدم التدخل (في شؤون الدول الأخرى) وعدم السعي لأي هيمنة، على عكس ما تعتبره تصرفات أمريكية أحادية الجانب تتسم بالهيمنة والخصوصية».

بدوره، يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، دالي يانغ، إن المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي يعكس الوضع الحالي للعلاقات بين القوتين العظميين، واصفاً العلاقات الأمريكية - الصينية بأنها «باتت أكثر تنافسية».

لكن يانغ ألمح إلى أنه في ضوء هيمنة قضية الأمن القومي الصيني على مؤتمر الحزب، فإن العلاقات الثنائية سيتم النظر إليها بشكل رئيسي من خلال هذا المنظور، مضيفاً «كل شيء سيتم النظر إليه من خلال عدسة الأمن القومي».

كان خبراء يرون أن خطط الصين الاقتصادية لفك الارتباط مع الولايات المتحدة قد تحقق أهدافها خلال 10 أو 12 سنة، إلا أن فك الارتباط بدا على نحو أسرع.

وفي هذا الصدد تناولت صحيفة «كومسومولسكايا برافدا» الروسية، ما يعنيه نشوب صراع ساخن بين الولايات المتحدة والصين. ونقلت عن مدير معهد دراسات آسيا وإفريقيا في جامعة موسكو الحكومية، أليكسي ماسلوف قوله إن «هناك حالتين تدفعان بكين إلى الإسراع:

أولاً، العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي كان على الصين أن تحدد موقفها منها؛ وثانياً، الصراع حول تايوان. لذلك، فإن الصراع، وإن يكن ليس ساخناً، سيحدث، في رأيي، في وقت أبكر بكثير مما خططت له الصين، أي ليس في غضون 10 سنوات، بل ربما في غضون 5 ـ 7 سنوات»، حسب «روسيا اليوم».

مرحلة ساخنة

وبالنسبة لبعض الخبراء فإن المرحلة الساخنة في هذا الصراع، والتي تعني أن تتمزق جميع العلاقات الصينية الأمريكية، غير مربحة لأي منهما ولا غيرهما، إذ إن أياً من البلدين غير جاهز لذلك، كما أن دخول المرحلة الساخنة، سيقتضي تدمير الاقتصاد، وهذا سيؤدي إلى انهيار اقتصاد العالم بأكمله.

الدبلوماسي الأمريكي المخضرم هنري كيسنجر ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق، اعتبر في أغسطس الماضي أن عالم اليوم يقترب من اختلال توازن خطير، وأن أمريكا «على حافة الحرب مع الصين وروسيا بشأن القضايا التي صنعتها جزئياً، من دون أي تصور لكيفية إنهائها أو ما الذي ستؤول إليه».

وقال كيسنجر- لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، إن واشنطن لا يمكنها تقسيم خصميها وتقليبهما على بعضهما البعض، بل كل ما يمكنها فعله هو عدم تسريع التوترات وإنشاء خيارات.

 

Email