تغير المناخ وأمن الطاقة في أوروبا معضلة أم فرصة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي
تواجه أوروبا أزمات استثنائية غير مسبوقة، فبينما تتسارع وتيرة التغيرات المناخية لترسم واقعاً جديداً على المشهد، تأتي أزمة أوكرانيا - الممتدة منذ الرابع والعشرين من شهر فبراير الماضي - لتفرض جملة من التحديات، لا سيما تلك الناجمة عن قطع إمدادات الغاز الروسي، الأمر الذي حفّز التراجع خطوة للوراء عن جهود العمل المناخي وتعهدات التخلي عن الوقود الأحفوري.
 
وذلك لصالح تأمين مصادر الطاقة بعد «الصفعة الروسية».
 
بينما تستعر أزمة أوروبا بين نيران التغير المناخي ومعضلة أمن الطاقة، حللت ورقة بحثية حديثة نشرها صندوق النقد الدولي خلال شهر سبتمبر الجاري، تلك المعضلة، وحاولت استخلاص «مجموعة من الفرص» ضمن الحلول المطروحة من أجل «ضرب عصفورين بحجر واحد»، التكيف مع التغيرات المناخية والحد منها، وتأمين مصادر طاقة مضمونة على المدى البعيد، إضافة إلى استثمار عوائد الضرائب المفروضة على الوقود الأحفوري.
 
تناولت الورقة البحثية المنشورة العلاقة بين تغير المناخ وأمن الطاقة في أوروبا، وقدمت أدلة تجريبية على أن هاتين المسألتين هما وجهان لعملة واحدة.
 
وأن الفرصة تكمن في أن «السياسات والإصلاحات التي تهدف إلى الابتعاد عن الكربون وزيادة كفاءة الطاقة في التوزيع والاستهلاك والتي هي مفتاح التخفيف من تغير المناخ، تقود إلى تأمين الطاقة في الوقت نفسه مع تقليل التعرض لتقلب أسعار الطاقة»، بالإشارة إلى اللجوء إلى الطاقات النظيفة كبديل من شأنه معالجة الأزمتين معاً.
 
لفتت الورقة إلى أن أوروبا تواجه خطراً مزدوجاً يتمثل في تغير المناخ وانعدام أمن الطاقة، مع تداعيات اقتصادية ومالية بعيدة المدى، وركزت في الوقت نفسه على آثار ما وصفته بـ «الانفجار الجيوسياسي»، الذي تتسبب فيه التوترات التي أثارتها العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بجهة زعزعة استقرار أسواق الطاقة العالمية.
 
وبينما لا يزال من السابق لأوانه معرفة كيف يمكن أن تتطور الأحداث، فمن المرجح أن تؤدي الأزمة إلى تغييرات طويلة الأمد في شبكات التزويد بالطاقة ومصادر الطاقة في توليد الكهرباء.

متغيرات
 
تلك المتغيرات، اعتبرت الورقة البحثية أن معالجة تغير المناخ وتعزيز أمن الطاقة «هما وجهان لعملة واحدة»، وأشارت إلى أن السياسات والإصلاحات الهيكلية الهادفة إلى تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري يمكن أن تؤتي ثمارها، ليس فقط لجهة خفض الانبعاثات الكربونية، ولكن أيضاً تحسين أمن الطاقة طوال الوقت بالنسبة لأوروبا.
 
ولفتت الورقة البحثية ضمن نتائجها الرئيسية أيضاً إلى أنه للحماية من التهديدات المرتبطة بتغير المناخ، يتعين المضي قدماً على جبهتين رئيسيتين، الأولى (التخفيف) من حدة المناخ، من خلال اتباع السياسات التي تساعد في الحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
والثانية (التكيف) مع أزمة المناخ، من خلال الجهود المبذولة للتكيف مع آثار تغير المناخ بما في ذلك من خلال تقليص الأضرار الناجمة عن الكوارث المرتبطة بالمناخ وكذلك للتكيف مع آثار التحولات الاقتصادية، بما يؤثر بدوره على استراتيجيات أمن الطاقة.
 
ومن خلال تحليل بيانات 39 دولة في أوروبا (في الفترة من 1980 حتى 2019) يتبين أن زيادة الاعتماد على الطاقة النووية والطاقة المتجددة وغيرهما من الطاقة غير الهيدروكربونية وتحسين الطاقة «يمكن أن تؤدي إلى انخفاض كبير في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وتحسين أمن الطاقة في أوروبا».
 
بدائل
 
تمثل تلك الأمور فرصاً على المدى البعيد، بينما على المديين القصير والمتوسط تبقى المعضلة الأوروبية عصيّة على الحل. فيما يشير الخبير الاقتصادي سليمان العساف، في تصريحات خاصة لـ «البيان»، إلى أن «مشكلة أوروبا الآن أن الوقت قصير جداً ونحن على أبواب الشتاء، وهي تحتاج إلى تغيير مصادر الطاقة والبحث عن بدائل عن الطاقة الروسية (تكلف تلك البدائل 195 مليار يورو من أجل التخلي عن الطاقة الروسية وفق المفوضية الأوروبية).
 
ويتابع: بالنسبة للغاز، فلن يكون بمقدور أوروبا تعويض الغاز الروسي بالكمية المطلوبة نفسها، لا سيما وأن الدول المنتجة للغاز مرتبطة بعقود طويلة الأجل، أما عن البدائل الأخرى والمحلية المرتبطة بالطاقة البديلة، فهي عدة أنواع من بينها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة النووية والحرارية والهيدروجين الأخضر.
 
لكن التوسع في تلك الطاقات يتطلب ضخ استثمارات هائلة. ذلك أن أوروبا تحتاج إلى أكثر من تريليون يورو من أجل زيادة حصة الطاقة المتجددة في إمدادات الكهرباء إلى 45% بحلول العام 2030 (طبقاً لتقديرات شركة أبحاث الطاقة، ريستاد إنرجي).
 
ومن هنا، وعلى رغم ما تمثله الطاقات النظيفة من أهمية (لتأمين الطاقة، وفي الوقت نفسه الالتزامات البيئية والمناخية) إلا أن المسألة ليست سهلة تماماً، إنما تحتاج إلى استثمارات هائلة «وهو أمر ليس باليسير على أوروبا التي تواجه أزمة اقتصادية مع ارتفاع معدلات التضخم».

فوائد
 
وبالعودة للورقة البحثية، فإنها قد أبرزت فوائد إضافية لاستراتيجيات الحد من المخاطر وتأمين الطاقة، ذلك أن السياسات على المدى القصير والضرائب البيئية (مثل الضرائب على الوقود الأحفوري) تؤدي لزيادة كبيرة بالإيرادات يمكن أن تمثل توفيراً إضافياً لتعويض الأسر الأكثر ضعفاً وبناء شبكة أمان متعددة الطبقات وتعزيز المرونة الهيكلية، لا سيما بعد وباء كورونا وتبعاته، وذلك ضمن «الفرص» التي تتحدث عنها الورقة في هذا الإطار.
 
وبينما ينظر التقرير إلى المسارات المثالية المرتبطة باستغلال الأزمة الراهنة لإيلاء الاهتمام الكافي بالبدائل النظيفة للطاقة وتضييق الخناق على الوقود الأحفوري وتوفير تمويلات إضافية من خلال الضرائب البيئية لبناء شبكة أمان اجتماعية، فإن المخاطر الأساسية تكمن في أن تعزز أزمة الطاقة الاندفاع نحو الاتجاه المعاكس لجهة التوسع في التمديد لمحطات الفحم.
 
ويحذر الخبير البيئي الدكتور علي قطب، من المسارات المغايرة التي تتجه إليها أوروبا فيما يخص العودة للوقود الأحفوري، بعدما اتجهت دول أوروبية في هذا المسلك وإعادة تشغيل محطات الفحم هناك لمواجهة، ضمن بدائل تعويض الغاز الروسي المكلفة، وهو مسلك يتعارض والالتزامات البيئية والمناخية.
 
ويلفت إلى أنه بعد العملية الروسية في أوكرانيا تغيرت العديد من الأمور المرتبطة بالالتزامات البيئية في ظل المخاوف الواسعة بشان مسألة أمن الطاقة، بما يشكل تهديداً واسعاً يعمق أزمة المناخ، موضحاً أن الإسراع في الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة يشكل عاملاً أساسياً لضمان أمن الطاقة.
 
وكذلك في الوقت نفسه بما لا يشكل أي ضرر بالبيئة والمناخ، إلا أن العقبات تتمثل في الاستثمارات الباهظة التي تحتاج إليها عملية التوسع في الاعتماد على الطاقة النظيفة، في وقت يعد الوقود الأحفوري أرخص من الطاقة النظيفة، وهو التحدي الأبرز.
 
وحثّت الورقة التي نشرها صندوق النقد الدولي، الدول الأوروبية، على تعميم التكيف في خطط التنمية لتعزيزها المرونة ضد تغير المناخ، موضحة أنه لا يمكن القضاء على مخاطر المناخ على المدى الطويل بشكل كامل، وبالتالي يتعين على الحكومات اتخاذ إجراءات حاسمة.
 
وأشارت إلى أنه تم اعتماد مجموعة متنوعة من تدابير التكيف لتعزيزها المرونة في مواجهة تغير المناخ في جميع أنحاء أوروبا، ولكن لا تزال هناك فجوات كبيرة قائمة في بعض البلدان، مثل دول البلطيق التي هي أكثر عرضة للتهديدات المرتبطة بتغير المناخ، بما يتطلب تعزيز المرونة الهيكلية البنية التحتية.
 
 
Email