يعطي إعلان اليابان عن الشروع ببناء مفاعلات نووية من الجيل الجديد، رمزية ذات دلالات لجهة عودة الطاقة النووية إلى الواجهة حول العالم، سيما وأن هذه الخطوة التي يصاحبها تشغيل محطات متوقفة عن العمل، جاءت بعد نحو 11 عاماً على كارثة فوكوشيما الشهيرة في 11 مارس 2011، بعد زلزال وتسونامي توهوكو الذي تسبب في مشكلات للتبريد بالمفاعل النووي أدت لارتفاع الضغط ومشكلات في التحكم بالتنفيس وزيادة النشاط الإشعاعي.

الخطوة التي أعلنت عنها طوكيو أخيراً إنما تعكس تغيراً جذرياً في سياسات البلد الذي كان يستمد نسبة أقل من 4% من الكهرباء من الطاقة النووية (طبقاً لإحصاءات العام الماضي) بعد أن كان يعتمد على ما يزيد على عشرة أضعاف هذا المعدل في 2011 قبل الكارثة.

يتزامن ذلك مع تغيّرات مماثلة في مواقف دول أوروبية عديدة تُعيد الطاقة النووية إلى الواجهة، من بينها ألمانيا، وإن كانت الأهداف الرئيسة مختلفة؛ ذلك أن طوكيو -وعلى لسان رئيس الوزراء فوميو كيشيدا- ذكرت أن الاتجاه نحو بناء مفاعلات حديثة بوسائل حماية وأمان مختلفة يأتي في خطٍ متوازٍ مع مستهدفات الوصول إلى الحياد الكربوني ببلوغ العام 2050.

بينما على الاتجاه الآخر، تأتي الارتدادات الأوروبية نحو الطاقة النووية مُبررة بشكل أساسي بمسألة تأمين إمدادات طاقة مستقرة لسد النقص الحادث في إمدادات الغاز والنفط الروسية بعد العملية العسكرية في أوكرانيا.

ذلك على النقيض من الاتجاهات العالمية السابقة من أجل إنهاء الطاقة النووية، بدءاً من السويد وإيطاليا وبلجيكا وألمانيا، للحد من المخاطر المحيطة بها، والتي ترتبط أساساً بمعدلات الأمان والنفايات الضارة.

من بين الدول التي اتجهت للعودة إلى الطاقة النووية كانت بلجيكا (التي كانت عمليات إنهائها بدأت سنة 1999)، إذ أعلنت بروكسل عن اعتزامها تمديد العمل بمفاعلين اثنين لعشر سنوات إضافية. كما بزغ اتجاه فرنسا (التي تمتلك أكبر عدد من المحطات النووية في القارة العجوز بحوالي 56 محطة)، إضافة إلى بريطانيا، لزيادة الاعتماد على هذا المسار.

وفي الولايات المتحدة يشجع الرئيس جو بايدن الاستثمار في الطاقة النووية، وقد خصصت إدارته ما يصل إلى ستة مليارات دولار لإنقاذ محطات مهددة بالإغلاق. كما تسعى الصين لتطوير منشآتها النووية. ويضاف للقائمة كل من بولندا والتشيك والهند، في مضمار مساعي التخلص من الاعتماد على الفحم.

ورغم أن عديداً من الدول تتجه لمسارات العودة للطاقة النووية مُجبرة كإجراءات حمائية لتأمين موارد الطاقة بعد ما أظهرته الحرب في أوكرانيا من مخاطر واسعة لا سيما على أوروبا، إلا أن هذا الاتجاه يصيب هدفاً آخر متمثلاً في الالتزامات البيئية وتحقيق الحياد الكربوني، نظراً لكون الطاقة النووية صديقة للبيئة، برغم مخاطرها.

البيئة والمناخ

وفي هذا الإطار، يتحدث استشاري البيئة والطاقة وتغير المناخ، ماهر عزازي، في تصريحات لـ «البيان» من القاهرة، مشيراً إلى أن الطاقة النووية تعتبر من أهم الوسائل الصديقة للبيئة والمناخ، ذلك أنها في سجل الحوادث الكبرى لمحطات التوليد الكهربائي هي الأقل على الإطلاق مقارنة بحوادث محطات الغاز المرعبة والحوادث التي وقعت لمحطات الهيدرو الضخمة.

ويلفت عزازي إلى أن محطات توليد الكهرباء من الطاقة النووية صديقة للبيئة لأنها لا يصدر عنها أي انبعاثات أو ملوثات مثل أكاسيد الكبريت أو أكاسيد النيتروجين ولا الجسيمات الصلبة. كما أنها صديقة للمناخ لكونها لا تصدر عنها أي انبعاثات للغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري. كما أن المخلفات النووية «يتم التعامل معها على أعلى مستوى من الأمان»، رغم بعض المخاطر.

ويشير الاستشاري البيئي إلى التطورات المتسارعة في تقنيات الأمان، لافتاً إلى أن النفايات النووية يتم دفنها في غرف على عمق من 100 إلى 150 متراً تحت الأرض مجوفة بجدران من الخرسانة المدرعة، كما أنه مع التطور العلمي والتكنولوجي يحدث لها إعادة تطوير. ويقول إن المخاطر التي يتصور أنها متعلقة بالنفايات النووية تكاد تكون منعدمة في ضوء ذلك التطور في نظم الأمان.

أما بالنسبة للإشعاعات النووية، فيلفت إلى أن سمك جدار المفاعل النووي يصل إلى ثلاثة أمتار من الخرسانة المسلحة، ومن الداخل توجد حاوية سميكة جداً للوقود النووي، وبالتالي فإن احتمالات التسرب الإشعاعي ضعيفة، معتبراً في الوقت نفسه أن التحول الدراماتيكي في سياق حماية المناخ يعيد إلى الواجهة الطاقة النووية، والعالم مؤهل بشكل كبير لتحل الطاقة النووية محل محطات النفط والغاز في توليد الكهرباء.

وفي ضوء هذه الآثار البيئية، دعا أكثر من 100 مجتمع نووي قادة العالم إلى مضاعفة إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية في 2050 لتحقيق الحياد الكربوني، وفق موقع وورلد نيكلير نيوز. وطبقاً لإحصاءات شركة أبحاث الطاقة ريستاد إنرجي فإن الاستثمارات المتوقعة بالطاقة النووية في 2023 تصل إلى 46 مليار دولار. كما يقدر الاتحاد الأوروبي قيمة الاستثمارات المطلوبة في الجيل الجديد من محطات الطاقة النووية بحلول العام 2050 بحوالي 500 مليار يورو بالقارة العجوز.

طاقة نظيفة

من جانبه، يقول استشاري التغيرات المناخية في القاهرة الدكتور السيد صبري، في تصريحات لـ «البيان»: إن ثمة فرقاً هائلاً بين الطاقة الحرارية والكيميائية والطاقة النووية، فالأخيرة من الطاقات النظيفة، والعودة إليها من جديد يعني المضي قدماً باتجاه الحياد الكربوني والتصدي لتغير المناخ؛ لجهة كونها لا تصدر عنها أي انبعاثات ضارة بالبيئة والمناخ، عوضاً عن استخدام الوقود الأحفوري الذي تصدر عنه انبعاثات الغاز الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري. ويوضح أن التفاعل النووي مختلف عن التفاعل الكيميائي، فالطاقة النووية تنتج عن تفاعلات انشطار أو اندماج نواتي الذرة، بينما الحرارية هي نتاج تفاعل كيميائي بين الذرات، الأخيرة تصدر عنها انبعاثات ضارة بالبيئة والمناخ، بينما الطاقة النووية هي من الطاقات النظيفة التي لا تشكل تهديداً على المناخ مثل الوقود الأحفوري ومصادر الطاقة غير النظيفة المصدرة للغازات الدفيئة.

بيانات من العالم

32بلداً تستخدم «محطات الطاقة النووية» لتوليد الكهرباء10%من توليد الكهرباء في العالم باستخدام الطاقة النووية400غيغاواط إجمالي سعة الطاقة النووية المركبة عالمياً في العام الماضي52مفاعلاً قيد الإنشاء في 19 دولة حول العالم100مجتمع نووي دعوا قادة العالم إلى مضاعفة إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية في 2050 لتحقيق الحياد الكربوني (وفق موقع وورلد نيكلير نيوز)46مليار دولار استثمارات متوقعة بالطاقة النووية في 2023 (وفق شركة أبحاث الطاقة ريستاد إنرجي)500مليار يورو الإجمالي المتوقع لاستثمارات الاتحاد الأوروبي في الجيل الجديد من محطات الطاقة النووية بحلول 2050 150مفاعلاً نووياً جديداً تخطط الصين لإنشائهم خلال الـ15 المقبلة (باستثمارات 440 مليار دولار)٢٥٪ نسبة الكهرباء من الطاقة النووية بحلول 2050 في بريطانيا (طبقاً للمستهدفات التي أعلن عنها رئيس الوزراء البريطاني) مقارنة بـ 16% حالياً.